العدة والحداد بين الحقيقة والوهم
قال تعالى : - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ - البقرة 234
سنبسط الكلام في هذا النص لنبين للناس طبيعة الوهم وشكله ومنشأه ، الوهم الذي ساهم بشكل حاد في تغيير المفاهيم والقيم ، بعدما تدخل في المخيال العام وروج لمفاهيم غريبة منتحلة ، وكثير منا يعلم أن الوهم له من القوة لدى البعض ما يجعله يطغى على تفكيرهم وعقلهم ، ويُغلَّب فيهم تلك الترسبات السوقية غير المنتظمة بسلم من المعارف والعلوم ، حتى ساد في أوساطنا كحقايق ثابتة ، ومنها على سبيل المثال مفهومي - العدة والحداد - ونعني بالعدة : - هي تلك المدة الزمنية التي تعيشها المرأة منتظرة لزوجها بعد وفاته - ، واما الحداد : - فهو تلك المدة التي تقضيها المرأة في مكان ما حدادا على زوجها بعد وفاته - ، ولم يفرق عامة المفسرين وأهل الفقه بينهما مع الأسف ، بل ذهبوا للقول : بأن العدة هي الحداد ، والحداد هو العدة !!! ، وهذا كما ترون وهم وخلط في المفاهيم ساد في لسان العرف وتمكن منه ، وهذا التوهم منهم هو إدماج قهري وصهر غير معرفي للمفاهيم في وضع مغاير للحقيقة الشرعية والدلالية ، وصار الأستعمال العرفي للمفاهيم هو الغالب أو قل هو الشرعي ، وغابت في ظل ذلك الحقيقة الشرعية والحكم الصحيح ، ولكي نقف عند أصل هذا الوهم وفصله ، لابد من أستطلاع لغة العرب في هذا الموضوع أولاً ، أعني في الألفاظ والمعاني التي يتشكل منها النص ، وثانياً سنسلط الضوء على الحقيقة الشرعية معناها ومُرادها لدى الأصوليين ، وكذلك كما وردت في نصوص الكتاب المجيد توالياً :
المفردة الأولى : قوله تعالى : - يتوفون - ، هذا الفعل في أصله مصدر هيئة يدل على المفارقة والبعد ، ويكون دالاً على الموت في حال ثبوت ذلك ، أي حين يكون ذهاب الروح عن البدن أمراً حقيقياً واقعياً ، ولا يكون ذلك كذلك إلاَّ في حالة تحقق كل الشروط الموضوعية الدالة على ذلك ، وقد عبر البعض عن ذلك بقولهم : - حين يستوفي الكائن الحي فيها على كل الشروط الموضوعية الدالة على إستحالة الحياة في الدنيا - ، وإلى ذلك ذهب علماء في اللغة للقول : - بأن الموت يكون أخص في الإعتبار من معنى الوفاة ، التي هي الأعم في الدلالة من الموت في المعنى - ، ومنه نعلم إنه كلما جاء لفظ - يتوفى - فهو صيغة إستغراق ووصف عام ، ويدل على هذا المعنى ماورد في قوله تعالى : - فلما توفيتني – المائدة 117 ، عن قصة عيسى النبي و ذلك الحوار الذي دار بينه وبين الله تعالى ، والذي نفهم منه أن هناك إتفاقاً قد جرى بينهما ، يتكفل بموجبه الله القدير بإبعاد عيسى لسبب ما ، عن تلك الجماعة التي كان عنها مسؤولاً ، وتتحول المسؤولية المباشرة والرقابة لله الخالق القدير ، فقال : - وكنت أنت الرقيب عليهم - المائدة 117 ، أي أنت الرقيب عليهم في الحال المشار إليها ، والذي قد تم بناءاً على صيغة الإتفاق الذي باعد الله فيه بين عيسى النبي وبين عالم الإمكان و المادة ، ومن ذلك نفهم : إنه لماذا لم يأت الله بالفعل بصيغة - أمتني - ؟ ، بل جاء بصيغة – توفيتني – التي هي بمعنى أبعدتني أو فارقت بيني وبين جماعتي ، وفعل المخاطب هنا يُراد منه ليقع موقع البناء للمعلوم من جهة السامع ، فلو قال مثلاً - أمتني - بدلاً عن - توفيتني - لأصبح الخطاب لغوا منه وعبثا ، لماذا ؟ لأن خطاب المتكلم العاقل مع الميت بتلك الصيغة وعلى هذا النحو غير ممكن البتة هذا من جهة عالم الأمكان .
وقد عَّرفنا الموت : - بأنه خروج للروح عن البدن - ، وأختلف بمعنى الروح !! فمن قائل بأنها من جنس المادة ، ومن قائل إنها من جنس غير معلوم ولكنه ليس مادياً ، والذي نرجحه في هذا الباب انها من المادة ، لقوله تعالى : - يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي - الإسراء 85 ، ومعلوم إن عالم الأمر هو عالم مادي ، ومن هذه الجهة نرجح ماذهبنا إليه من كونها مادة ، والروح هي تلك المادة التي يتحرك بها البدن ، أو قل هي الطاقة التي تحرك أجهزة البدن ، والتي يتم بها تشغيل تمام أعضاء البدن أو الجسد ، والموت يكون حقيقيا وتاماً في حال خروج هذا المؤثر أو هذه الطاقة من البدن أو الجسد ، ويجب ان يكون ذلك على نحو تام و نهائي ، وهذا القيد الذي وضعناه إحترازي بأمتياز ، وفي حال الموت تنعدم صفة الحوار على النحو المتقدم ولا تصح كذلك في غيره ، ولكن ذلك يكون ممكنا في حال الوفاة التي هي صيغة مفارقة أو بعد على نحو ما .
هذا الكلام يقودنا للسؤال المشروع حول حقيقة عيسى النبي !! ، وهل أنه حي أم لا ؟ ، والحديث عن الحياة والموت يلزمه الدليل الدال على إثباته ، فالكتاب المجيد ونصوصه التي بين أيدينا لا تتحدث عن الموت بشكل واضح وصريح ، وإنما ورد الكلام بصيغة - توفيتني - وبصيغة - متوفيك - ، ولم ترد بصيغة – أمتني أو مميتك - !! ، والفرق بين الصيغتين واضح لا يخفى على أهله ، بل أن ماورد من بيان في قوله تعالى - شُبه لهم - إنما هو إشارة ضمنية تدعونا للتفكير الجدي في حياة عيسى النبي ، فالتشبيه في لغة العرب هو إستعارة تبعية دالة هنا على التعمية التي يراد منها إتمام عملية الأبعاد دون إلفات نظر .
ونفس الشيء يمكننا قوله أو اسقاطه على حياة الإمام المهدي الغائب كما يرآه عامة المسلمين ، فغيبته على هذا النحو تكون وفاة بلحاظ هذا المعنى لمن يؤمنون بوجوده ، فهو إذن غائب ومفارق بلحاظ عالم الإمكان والمادة لا بلحاظ عالم الشهود والقدرة ، أعني أن مفهوم الوفاة مصداقها غيابه عن عالم الإمكان .
ومن باب التنبيه كذلك ، يمكننا من جهة حساب حياة أصحاب أهل الكهف ضمن حدود هذه المصاديق ، أولئك الفتيه الذين ضرب الله على آذانهم في الكهف سنيين عددا فصاروا رقوداً - وتحسبهم ايقاظا وهم رقود - الكهف 18 ، ورقود في اللسان العربي بمعنى نيام وخصوصاً في الليل ، والوصف جاء من وحي الطبيعة أو الهيئة التي كانوا عليها ، وقيل بل معناه النوم العميق المستغرق في الظل والعتمة ، بحيث يدل معناه على مفارقة عالم الإحساس وعدم الشعور بالمحيط العام ، ويكون ذلك من خلال تعطيل أداتي السمع والبصر ، أي يجعل منهما بعيدين عن المؤثرات أو الإستجابة للمتغيرات الطبيعية التي تحدث حولهما .
ولكن مامعنى قوله تعالى : - الله يتوفى الأنفس حين موتها ..- الزمر 42 ؟ ، والبحث في الأصل يجب أن يذهب إلى ماذا تعني لفظ - الأنفس - ؟ والتي مفردها النفس ، يقول أهل الحكمة النفس : هي ( الطبيعة المادية ) للكائن الحي ، والموت يقع عليها ، أذن هي الموضع أو هي المكان الذي يقع فيه أو عليه الموت ، ومن هنا قالوا : وبالنفس نتعرف على صفات الكائن الحي التي يتميز بها من حركة وشعور وغير ذلك ، فاذا توقفت هذه الطبيعة عن الإستجابة لصفاتها الحيوية فعند ذاك يُقال عنها أو أنها ميته ، ولايكون الموت ممكناً من غير مقدمته التي قلنا عنها بأنها المفارقة أو البعد ، و الذي به يتم الإنتزاع الذي يسميه النص - يتوفى - ، والذي هو الشرط الموضوعي السابق و اللازم لصحة الموت أو قل هو المقدمة ، بدليل صيغة التوكيد في البيان التالي والذي قال فيه : - فيمسك التي قضى عليها الموت .. – 42 الزمر ، فيكون الإمساك بمعنى : ان الله قد جعل من المفارقة نهائية وتامة في حال حكم أو قضى الله على الأنفس بالموت .
المفردة الثانية : هي فعل - ويذرون - ، والذي هو بحسب أقرب المقاييس المعجمية يدل على الترك إن كان مضارعاً وعلى الخلق ان كان ماضياً ، والضمير في مسألتنا يعود في الفعل على الأزواج الذين يتوفون ويتركون أزواجا لهم .
المفردة الثالثة : قوله - يتربصن - أي ينتظرن من الفعل تربص الرباعي الجذر قال تعالى : - فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ - التوبة 24 ومعناه أنتظروا أمر الله الذي يأتي أو سيأتي ، وفعل تربص من الافعال التي تتضمن حركة النقلة من جهة مخالفة مايريده الأعداء فيكون الإنتظار من جهة الفئة المؤمنة للخير كقوله تعالى : - قل هل تربصون بنا إلاَّ أحدى الحسنيين - الطور 30 ، فهي من هذه الجهة إنتظار لأحدى الحسنيين النصر أو الشهادة ، وتارة يكون التربص للشر كقوله تعالى : - نتربص به ريب المنون - الطور 30 .
الحقيقة الشرعية :
- الحقيقة الشرعية : - هي مفهوم دلالي ورد التنويه عليه في البند الثاني من المقدمة ، ويُراد منها المعنى الحقيقي للفظ وذلك في مقابل المعنى المجازي ، وبما إننا ممن يقول بعدم الترادف في الكتاب المجيد ، فهذا دليل إثبات على صحة قولنا : ذلك أننا نعلم ان الله حينما وضع الألفاظ في الكتاب المجيد ، إنما وضعها لمعاني خاصة محددة ومعينة ، ولم يجعل من المعاني سائبة أو خاضعة للقيل والقال ، أعني أن كل لفظ في الكتاب المجيد وضع لمعنىً معين ومحدد بدقة ، وهذا التوكيد يجعلنا نقول : - إن الحقيقة الشرعية ثابتة في الكتاب المجيد - ودليل ثبوتها هو من وضعها وهو الله القدير ، ويعني هذا ان كل المعاني تكون حقيقية بالنسبة للألفاظ التي وضعت لها ، وهذا ما استدلّ عليه - صاحب كفاية الأصول : في ثبوت الحقيقة الشرعيّة من خلال التبادر ووضوح المعاني الشرعيّة من الفاظها - ، وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي أيضاً في ثبوت الحقيقة الشرعية ، وانّ أعتبر الوضع قد تم تعيناً وناتجاً عن كثرة الإستعمال.
وفي مسألتنا تكون الحقيقة الشرعية هو هذا المعنى المُراد من النص ، ودلالة اللفظ على معناه تكون من خلال الوضع اللغوي أو من طبيعة المتبادر منه ، ومن هنا لا نجد فرقاً فيه بين معناه هنا والمعنى الدلالي للفظ ، ذلك الذي أتخذناه ركيزة في بحثنا عن مفهوم النص ، ويكون وصفنا للحقيقة بأنها دلالية وشرعية وهو ما يرآه أيضاً عبدالقاهر الجرجاني رحمه الله في التعاريف ، هذا بلحاظ وحدة السياق والنظم :
ونعود لنقول : ومادمنا نعتبر معنى - يتوفى - معناً عاماً دالاً على المفارقة والبعد ، و لا يكون الموت من أصدق معانيه أبتداءً كما تدل على ذلك لغة العرب ، وإنما يكون الموت من أحد مصاديقه الثابتة ( بالعلم واليقين ) ، ويعني هذا أن مجرد لفظ - توفى - لا يدل على الموت مع عدم العلم واليقين ولا يعد موتاً أبتداءً ، وإنما الموت يكون في السياق و في العرض ان ثبت بالعلم واليقين ، أي لا يكون أولاً وبالذات من جهة اللفظ .
والمرأة التي - يتوفى - عنها زوجها تكون مفارقة له على نحو ما ، وحكمها من جهة الشرع حكم المنتظرة له بهذا اللحاظ ، إن لم تعلم علم اليقين بأنه قد مات أو إنه ميت بالفعل ، لنقرأ النص قال تعالى : - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ - خطاب النص إنما يتحدث عن المرأة التي يتوفى عنها زوجها ، ولا يتحدث عن المرأة التي مات عنها زوجها ، أي إنها هنا بحكم التي لا تعلم بإنه ميت أم لا يقيناً ، وقيد ( لا تعلم ) أتينا به للتضمين والدلالة على ماورد في النص من معنى قوله : - يتوفون - ، فالذين يتوفون عنهم أزواجهم ، جعل الله لهم مدة من الإنتظار حكماً شرعياً ، قال : هي - أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً - ، وهذه المدة يمكن حسابها الزمني ليتحصل منها البراءة الشرعية - براءة الذمة - مما يتعلق بالزوج المتوفي ، إذن هي وقت مستقطع من حياة المرأة منظوراً إليه في حال ، إن كانت المرأة في شك من أمرها من جهة الحمل أم لا ، وعليه يكون الوقت المعين يرتبط :
أولاً : بالنظر لمعرفة حقيقة غياب الزوج والتحقق من ذلك على كل نحو .
وثانياً : يرتبط من جهة المرأة بالتثبت من حقيقة فيما لوكانت حاملاً أم لا .
وبالعودة لتحليل فعل - يتربصن - وضميره المتعلق به نعلم ، إنه يعود على الأزواج المتوفين ، وليس على ترك الزينة والطيب على فراق الزوج ، لماذا ؟ لأن الزينة في أصلها تنقسم بحسب الواقع والوضع إلى - زينة داخلية وزينة خارجية - ، ولا يصح منع الزوجة من رعاية مظهرها أو الإعتناء بزينتها الداخلية ، بل المنع في هذه الحالة أمر مستقبح عند العقلاء ، وأما مفهوم الزينة الخارجية فهي من الأشياء النسبية التي تتفاوت شدة وضعفا بحسب الواقع الإجتماعي والبيئي والثقافي ، وتعميم الأحكام والفتاوى من غير علم بالواقع من هذه الجهة ، دليل ضعف وقلة خبرة في مجال البحث العلمي والشرعي ، لهذا وصف أحد الفقهاء قول بعض المفسرين : - بتحريم مطلق الزينة على الزوجة المتوفى عنها زوجها ، بأنه قول واهن ضعيف ولا يعضده دليل من كتاب أو سنة - ، نعم يتطلب الأمر الدقة وعدم التقليد أو الخلط في تركيب الأحكام والفتاوى وتأليفها ، إنما يجب رعاية نصوص الكتاب المجيد ورفع درجة الوعي ، وتخليص الذهنية القديمة من مفاهيم غير صالحة كالقول بوجود النسخ في نصوص الكتاب وآياته ، وإلى ذلك نسترعي الإنتباه فالتراث القديم في بعض فصوله قدم لنا مواداً لا تصلح ولا يجب الأخذ بها خاصة بما يتعلق في الكتاب المجيد ، ذلك إننا نؤمن بان كل نص في كتاب الله المجيد له مساحة معينة من الأهداف والمعاني تكون مستقلة عن غيرها ، ناهيك عن أن مفهوم النسخ في لغة العرب له موضوع معين لا يصح تطبيقه على الكتاب المجيد .
وفي مسألتنا نجد ان الله قد فصل بحسب الوضع والطبيعة حكم كل الأشياء ، فهو حين نظر إلى ذوات الأحمال من النساء قال تَعَالَى: - وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ - الْبَقَرَةِ 240 ، جعل مدة الإنتظار حولا كاملاً ، أي إنه رتب المدة بحسب علم المرأة بحملها ، ولا يصح الإدعاء بأن النص مورد البحث قد نسخ هذه المدة فجعلها أربعة أشهر وعشرا ، بل ان لكل نص متعلق ما ولم يأت لكي ينسخ ما قبله ، فالأحكام الشرعية إنما وردت لتجعل من الحكم مناسباً لموضوعه ، و لم تأت لتنسخ بعضها بعضاً ، بل جاءت لتكمل بعضها بعضاً .
وعلى ما تقدم يمكن القول بأن فرضية السقف الزمني إنما جاءت متسقةً مع طبيعة كل إمرأة منظوراً إليها بحسب وضعها ، وكيف تكون في الأحوال التي هي فيها ، ولهذا قال تعالى في موضع اللائي : - .. يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ - الطلاق 4 ، فالنص يتحدث عن النساء اللائي أنقطعن عن المحيض لسبب ما ، فقد جعل الله لهذه المرأة مدة زمنية تعتد بها - ثلاثة أشهر - ، وجعل من هذه المدة بمثابة القيد الذي تحرز فيه المرأة حالها وتطمئن له بدليل قوله - ان ارتبتم - ، فالمدة الزمنية المشار إليها في كل حالة ، إنما تأتي بدرجة تامة للحصول على الحقيقة الشرعية ، وليس من باب إضطهاد المرأة ومنعها من أن تعيش حياتها و مزاولة عملها ، إنما المراد من ذلك تحقيق البراءة الشرعية ليس إلاَّ .
نعم العدّة وَاجِبَةٌ عَلَى المرأة ، وَهي حرة في إنتخاب المكان الذي ترى فيه سعادتها لكي تكمل فيه عدتها ، ولا يجوز فرض نوع معين من الحياة عليها ولا يجوز منعها ، ان تتزين على نحو لا يخرجها من طبيعتها ، والفتاوى المانعة لها إنما هي نتاج واقع قد ولى وأندثر ، وليس له نصيب من الكتاب أو السنة الصحيحة المعتبرة ، وأما الأقوال المانعة من جهة بعض أهل التراث فلا يعتد بها ولا نميل إليها ونمنع الأخذ بها ، وأما الحداد فهو غير العدة هو شيء من التقاليد والأعراف التي منعها الشرع المقدس ، روي عن النبي عليه السلام قوله : - لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تَحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ - .
وخلاصة الكلام : إن لغة الفقه القديم تحتاج إلى إعادة نظر وتغيير ، ذلك ان كثير من الأحكام والفتاوى كتبت على نحو ما ، أفتقد فيه الكاتب على الضمانات العلمية والفكرية ، ومن بين تلك المسائل ما نحن بصدده هنا حول عدة المرأة المتوفي عنها زوجها ، والتي صارت بحكم تلك العقلية تعني حداد المرأة على زوجها ، مع إشتراطات ولوازم ما أنزل الله بها من سلطان ، ولهذا نقول المهمة إذن هي في التوكيد على قيمة الكتاب المجيد ، وكيف يجب أن نقرئه من جديد ؟ ، وكيف يمكن إنتاج أحكام وفتاوى منه تكون مناسبة للزمان والمكان ؟ ، ومن هنا يجب التفريق أولاً بين لفظ العدة وبين لفظ الحداد ، والتفريق في الحكم بينهما ، فالعدة واجبة بحكم الشرع وكتاب الله ، والحداد مستحب عند موت عزيز أو قريب ، شرط ان لا يزيد الحداد عن ثلاث ليال ، وأما ماهو جاري في أعصارنا فمن فرط التوهم وعدم التفريق والعلم ..
آية الله الشيخ إياد الركابي