نستهل الكلام بقوله تعالى : - [ .. إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا ، وإن خفتم عيلة يُغنيكم الله من فضله .. ] - التوبة 28 ، ونقول : - أن ما يقوله فقهاء المسلمين حول - نجاسة الكفار و المشركين - لا معنى له ولا دليل عليه ، بل هو قول واهن ضعيف وغير صحيح ، وهذا ما يدل عليه الكتاب المجيد و صريح العقل وصحيح النقل .
والفرق كبير بين لفظ - نجس - الوارد في الكتاب المجيد ومعنى - نجس - عند الفقهاء ، ويعتمد الفقهاء في أقوالهم وفتاويهم في هذا الشأن على مجموعة أخبار وروايات مبتورة السند ساقطة الدلالة ، ولا تصمد أمام النقد والبرهان والتحليل ، ولتداخل اللفظ بالمعنى الدارج كان لا بد لنا من وقفة تحليلية موضوعية من أجل البيان والتوضيح ، وذلك لأهمية الأمر وحساسيته ، ونقول :
أولاً : يجب رد دعوا الإجماع والاتفاق في ذلك ، و التي يقول بها بعض الفقهاء ، وكذا رد دعوا أهل التقليد من الفقهاء والمتكلمين .
وثانياً : التأكيد على ان ( الأصل في الأشياء الطهارة ) ، ومن ذلك طهارة بني آدم القطعية .
وثالثاً : التأكيد على أن ( النجاسة هي عرض زائل ) .
وهذا القول يسري حكما على جميع الناس مؤمنين كانوا أم كفاراً ومشركين وغيرهم ، ذلك : - [ ان دعوى الإجماع في هذا الشأن ليست دليلاً مستقلاً بحد ذاته ، حتى يمكننا الاعتماد عليها في تقرير هذا الأمر وغيره ] ، و التقليد في هذا الأمر من الفقهاء والمتكلمين وغيرهم ، غير جائز قطعاً ، والأحوط تركه مطلقاً ، ( لأن التقليد من حيث هو تحجير للعقل وإلغاء للاجتهاد ومعناه ) ، ودائماً يكون على نحو المطلقة السالبة التي نبذها الله في قوله : - ( هذا ما وجدنا عليه أباءنا .. ) – لقمان 21 ، وكذلك قوله تعالى : - ( .. بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا .. ) - البقرة 17 ، والقول الصحيح : ( إن فساد التقليد على نحو عام ) ، يكون باعتبار : ( التقليد قائم في الأصل قائما على خبر ساقط سنداً و دلالة ) ، قال العلامة الحلي وكذا السيد الخوئي ( والخبر جاءنا برواية سهل الديباجي عن أبيه بأحاديث من هذه المناكير ) - التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري ..
والصحيح - ان الأصل في الأشياء الطهارة - حكماً ومنه ( طهارة الآدمين جميعاً ) ولا استثناء في ذلك ولا تخصيص ولا تقييد ، والشيء نفسه يُقال عن النجاسة بعنوانها العام : ( وفي كونها عرض زائل ، تزول بزوال سببها ) ، وهذا ما عليه عامة الفقهاء والأصوليين ، وأما : - [ ما ذهب إليه بعض الإمامية في هذا الشأن فليس عندنا بشيء ] ، وعدم صحة دعوى الإجماع في ذلك فلأنها
أولاً : مخالفتها لظاهر الكتاب وعمومه ، كما في قوله تعالى - ( ولقد كرمنا بني آدم ) - الإسراء 70 ، والتكريم صفة إطلاق وعموم ، ومنها رفعة المقام والقدر ، ولا يصح التكريم مع النجاسة ، وكقوله تعالى : ( إني جاعل في الأرض خليفة ) - البقرة 30 ، ولا تصح الخلافة مع نجاسة المستخلف مطلقاً .
وثانياً : معارضتها للأخبار الصحيحة المروية عن النبي الأكرم ، ومنها قوله : ( .. كلكم لأدم وأدم من تراب ... ) .
وثالثاً : ضعف ما يستند عليه الإجماع في الأصل .
وأما حكم المسألة لدى - أئمة المذاهب الأربعة - وفقهائهم فالمشهور عندهم القول : - بطهارة أبدان الكفار والمشركين مطلقاً - ، وأما نجاستهم فهي عرض زائل ، أي إن النجاسة لا تسري للذوات من الأبدان .
وإن قلتم : وإنما المُراد من - نجاسة الكفار والمشركين - فلاعتقاداتهم الباطلة وأفعالهم المحرمة .
قلنا : إن هذا القول في أصله باطل ، لأنه يفتقد للدليل المحكم الذي يعضده ، والقول المظنون ليس حكما وهو لا يغني من الحق شيئا ، والاعتقاد من حيث هو ( عمل فكري مباح ) ، ولا ضير في مخالفته للمشهور في ذلك ، قال تعالى : ( لا إكراه في الدين ) – البقرة 256 ، وقال كذلك : ( أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) - يونس 99 ، وأما نسبة النجاسة فلما يقومون به من فعل محرم ، وهذه كذلك نسبة باطلة : - لأن طبيعة النجاسة وماهيتها كما قلنا ( هي عرض زائل مفارق ) ، وزوالها مرتبط بزوال سببها - ، : وليس من خواص النجاسة الالتصاق وعدم المفارقة بالأبدان أو الذوات ، قال تعالى : ( إن الحسنات يذهبن السيئات .. ) - هود 114 ، وعلى ذلك إتفاق العقلاء وسيرتهم .
طبيعة الفقه الإسلامي :
يُناكف البعض فيدَعي : ( ان الفقه الإسلامي - جامع مانع و غني بأحكامه وموضوعاته - ) !!!!!! ، وهذه الدعوى ليست صحيحة من وجوه ، بل ولا تصح في المطلق على الفقه القديم و الفقه الجديد والمعاصر كذلك ، لأن الفقه المتداول في حقيقته ليس سوى إجترارا وتكرارا لمن سبق ، وما يُقال عن الإجتهادات الفقهية والتفريعات فهي ليست سوى إعادة إنتاج لما هو قائما بالفعل في كتب التاريخ و التراث .
وأما طريقة الإستنباط فلم تتحرر منذ عهد الشافعي وإلى يومنا هذا ، لا في طريقيتها ولا في كيفيتها ولا فيما تقوم عليه أو تؤسس ، وأصول الإستنباط كذلك هي ذاتها التي قررها الشافعي في رسالته المشهورة من غير تغيير أو تبديل ، ولم نسمع أو نقرأ عن محاولات جادة في تطوير طرق الإستنباط أو إعادة النظر في اصولها ومتبنياتها ، ونصطدم دائماً في هذا المقام بذلك التطرف البشع من البعض ، وبتلك المزاعم من البعض الأخر .
فيما يخص مفهوم الأخبار المنسوبة إلى الرسول محمد - ص - وطبيعتها وحجيتها ودلالتها ، والتي غالا البعض فيها فنزلها منزلة نصوص الكتاب أو أعلى رتبة منها ، بل وجاوز البعض الحد منهم فقال :- هي ناسخة لكتاب الله واحكامه - ، مع إن هذه الأخبار في أحسن الأحوال لا تفيد سوى الظن في اغلبها ، والمعلوم إنها قد كُتبت بظروف غامضة ونوايا نجهلها .
ولذلك فلا يعتد بها ولا يجوز إعتبارها صنو الكتاب ، ومن هنا فنحن ندعوا لإعادة النظر في أصول الإجتهاد والإستنباط وطرقهما وموضوعاتهما وقواعدهما ، والذي نفهمه عن الإجتهاد السائد إنه إجتهاد تنقصه الكفاءة والقدرة على تلبية حاجات الناس المعاصرين ، ونعلم كذلك أنه لا يستطيع الإجابة عن الكثير من المسائل ذات الصلة ، وهذا المعنى بالذات دفع الإمام الخميني للقول : - بإن عامة علماء الدين والروحانيين منهم لا يدركون معنى الإجتهاد ، ولذلك جعلوه مقتصراً على شؤونات الحيض والنفاس ، مع إنه في حقيقته أعمق وأهم من هذا بكثير ، إنه ذلك الفكر أو التفكير العلمي الذي يستجيب لتطلعات المجتمع في الحاضر والمستقبل ، ولأهمية ذلك يتطلب تنبيه العلماء لبذل الجهد ومضاعفته ، وأعمال النظر في المسائل الحيوية التي تهم إدارة المجتمع والمشاركة الجادة في تقديم الحلول لذلك .. - صحيفة النور ج21 ص 100 .
ولكن هل الفقه الإسلامي غني بالفعل ؟ كما تقول المقدمة !! ، أم إن غناه في اصوله وقواعده الموجودة في الكتاب المجيد ؟ ، وهذا الإستدراك في السؤال يقودنا للقول التالي أن : - الغنى المقصود إنما هو ذلك الموجود في نصوص الكتاب المجيد ، والنصوص هي التي تؤسس لتلك القواعد والأصول ، واما الفروع والتفريعات من الفقهاء فقد غاب عنها المنهج الصحيح ، وغابت عنها الأداة الواقعية أعني ( العقل المؤمن بالتطور السنني الطبيعي الغالب في الحياة والكون ) ، وتغييب العقل إخراج متعمد للقدرة الذاتية في الكشف الدقيق عن الأحكام ومناسبتها للموضوعات بحسب الزمان والمكان ، وكذلك في قدرته على المشاركة في التخطئة والتصويب لكثير من المسائل والموضوعات والأحكام العامة - .
يقودنا هذا للتعرف على السبب الحقيقي في تخلف الفقه الإسلامي عن مجاراة الحياة وتطورها !! ، وقد قيل : إن السر يكمن في عدم إهتمام الفقهاء بكتاب الله واحكامه في الإستنباط أو في الإجتهاد ، وبدلاً عنه يتمسكون في تحليل الأخبار والروايات وتحليل وعرض أقوال من سبقهم من الفقهاء ، وفي تلك الدورة يفتون ويحكمون ومن هنا تبدو المخاطرة التي نوهنا إليها في أكثر من مناسبة .
ولا يخفى أن عجز الفقه عن التطور في الحياة واضح بيَّن ، وشاهدنا على ذلك ما نحن فيه أعني قولهم القديم الجديد - [ نجاسة الكفار والمشركين ] - ، تلك المقولة التي أثرت على الضمير والوجدان الإنساني وحالت دون التعامل احسن بين الناس ، ومعلوم أن تلك المقولة إنما قامت وتأسست على أخبار وظنون ونوايا غير صالحة ، ومع ذلك أدعَّوا عليها الإتفاق والإجماع !! مع إن إجماعهم على ذلك في أصله باطل ، وسبب بطلانه ضعف مستنده الذي يتكئون عليه هذا من جهة ، ومن جهة أخرى وجود المانع له من الكتاب والعقل .
وأما ما يُحكى عن تواتر الأخبار في هذا الشأن فهو ليس صحيحاً سنداً ودلالة ، وقد مر بنا تكريم الكتاب المجيد لبني آدم على نحو مطلق ومن غير تمييز ، حين قال : ( ولقد كرمنا بني آدم ) - الإسراء 70 ، وفي قوله كذلك : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) الحجرات 13 ، وظاهر الكلام في الحجرات عن مطلق خلق الناس ( الذكر والأنثى ) ، وما يعزز ذلك الظاهر هو القيمة المضافة التي تكون في اللقاء والتعارف والتجاوب وعدم الخلاف فيما لا ينفع الناس ..
ولكن ما معنى الكفار ؟
الكفار جمع كافر ، وأصل اللفظ من - كفر - بمعنى رفض ، والكافر هو الرافض وجمعها الرافضين أو الرافضون ، وقد أخطأت المعاجم حينما اعتبرت معنى الكفر هو الستر أو الإخفاء والتغطية ، وقد أخطأ أهل الإصطلاح في معنى الكفر بقولهم إنه الإنكار أو الجحود ، والصحيح ما ذهبنا إليه إذ الأصل في اللفظ يكون من اللفظ الثلاثي الصحيح - كفر - و الذي هو بمعنى رفض - ، وليس بمعنى أخفى أو أنكر أو جحد ، إذ الرفض في لغة العرب أكمل وأعم دلالة من مقولات أهل المعاجم ، والكفر مصدرا مادة تدل على - الرفض - كذلك ، أي الرفض الفكري والعقلي ، ذلك بإعتبار كونها مادة نظرية بحتة ، ولهذا جاءت في سياق الكلام ، قل : ( لا أعبد ما تعبدون ) ، ويكون التذييل اللاحق بصيغة تأكيد الأمر ، في قوله : ( لكم دينكم ولي دين ) ، والخطاب في مجمله يتحدث عن الكفار لا عن المشركين ، ومعلوم ذلك الفرق بين الكفر والشرك والذي لا يخفى على أهله .
أقول : ولما كانت مادة الكفر تعني الرفض ، إذن فيصح القول : - إني أكفر بدين بوذا - ، وأنا أعني به : ( إني أرفض دين بوذا ) على نحو ما تكون عليه طريقته بالتفكير وبطريقة الإيمان التي يتبعها ، إذن فقيد الرفض هو للطريقية والكيفية وليس لطبيعة الوجود والعدم ، ونفس الشيء يُقال : - إني أكفر بمذهب إبي حنيفة - مثلاً ، ولا يريد القائل معنى الرفض الوجودي على نحو ( الإنكار ) ، بل يُريد القول من ذلك : ( رفض طريقة ابي حنيفة في الإجتهاد وتحرير المسائل ) ، والكلام في مجمله هنا فكري ونظري محض ولا دخل له بالجانب العملي ، ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن – الرافضة - : وهو الصفة المشبهة المرافقة للجماعة التي : ( رفضت الطريقة والبيعة التي تولى بها أبي بكر وعمر الخلافة ) ، وليس هي بمعنى إنكار خلافة أبي بكر بالفعل ( فلإنكار شيء والرفض شيئا أخر ) ، ولا دخل لجدلية ( الوجود والعدم ) في هذا المقام ، وسواء قلنا إن - الرافضة - هي أسم صفة أو صفة مشبهة فالمتبادر للذهن من اللفظ يعني : - تلك الجماعة التي كفرت بخلافة ابي بكر - ، أي رفضتها ولم تنكروها كواقع موضوعي وتاريخي ، وهذه غير هذه كما هو واضح ، والأمر كله يتعلق بمعنى الرفض ، والفرق بينه وبين الإنكار والجحود .
وأما ما ذهب إليه أهل اللغة وما تعارف عليه أهل الشرع في ذلك فليس صحيحاً ، بدلالة معنى الكفر الوارد في لسان نصوص الكتاب والتي حصرته بالرفض دون سواه .
قال تعالى : ( فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ) – البقرة 89 .
وقال تعالى : ( فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً ) - الإسراء:99
هذه النصوص وغيرها كثير تدفعنا :
أولاً : لطرد الفكرة المتداولة والسيئة في أدب المسلمين وفقههم ، والتي تمزج بين المعاني والألفاظ تبعاً لمقولة الترادف .
وثانياً : تدفعنا للتمييز بين لفظ - نجس - ولفظ - كافر - ، فلكل منهما معناً مغايرا للآخر ، وقد بينا معنى - كفر – في اللغة والإصطلاح .
.. .
ولكن ما معنى كلمة – نجس - ؟ :
حان الآن للتعرف على معنى كلمة - نجس - في اللغة والإصطلاح ، ونقول : هي لفظ متشابه ، فإذا جاء في صيغته المُنكرة دل على مطلق عنوان النجاسة ، و التي هي ضد الطهارة ، وجمعها أنجاس ، وقد خالف في ذلك الفراء فقال : ( والنجس لا يجمع ولا يؤنث ) ، وقد أختُلف في معناه الإصطلاحي بين الفقهاء إلى أقوال منها :
أولاً : إنه لفظ دال على معنى العين النجسة أو الذات النجسة ، ومثلوا على ذلك بالمشرك ، فقالوا : هو عين نجسة أو ذات نجسة .
وثانياً : انه لفظ دال على ما يتعلق به أو بسببه فيكون نجساً لذلك ، كأكل الميتة والدم ولحم الخنزير .
وثالثاً : انه لفظ دال على لزوم ومداومة الفعل النجس وعدم التطهير منه .
ورابعاً : انه لفظ دال على ما يعتقد به المرء ، فيكون نجسا بسببه ، وهذا من قبيل النجاسة المعنوية !! .
و قيل : انه لفظ دال على الفعل النجس وعدم التحرز منه .
واما بالنسبة للقول الأول :
فجهة الإستدلال به تقوم عندهم على أساس النص الذي بدأنا به الكلام أول مرة ، قوله تعالى : ( إنما المشركون نجس ) ، وفي توضيح ذلك قالوا : [ إن عامة المشركين هم أعيان نجسة أو ذوات نجسة ] ! ، وهذا التوضيح تنقصه الدقة الوثائقية والدليل وشاهد الإثبات ، و بحدود علمنا لم نجد ما يوثق هذا القول أو يؤكد عليه و يدل .
وإذا كان ذلك كذلك : إذن فما هو الدليل عليه أو ماهي العلة التي أستند عليها الفقهاء في قولهم بالنجاسة الذاتية ؟ .
فإن قلتم : إن الدليل عندهم هو النص المتقدم نفسه : ( إنما المشركون نجس ) .
قلنا : إن النص المتقدم لا يبين ذلك المعنى ولا يدل عليه إنما هو إشارة أو نعت لما فعله المشركين ، وليس في ذلك دلالة تفيدنا بالقول : - أن نجاستهم ذاتية أو عينية - ، وقولهم على نحو مطلق لا يُفهم منه المتعين في هذا الشأن ، : ( لأنهم أعتمدوا في ذلك على التعريف الإصطلاحي ) ، و ليس على النص الذي جاء قبل ذلك بكثير ، وتحميل النص المعنى الإصطلاحي اللاحق مثلبة ، وتحميل للنص ما لا يحتمل من المعاني .
والعين النجسة بتعريف الفقهاء : - هي تلك التي يستحيل طهارتها ولو بمياه الأرض جميعاً - ، ومعلوم أن اللسان العربي قد وسع دائرة (معنى النجاسة ) وجعلها شيئا مطلقا ، أي إنها عنده أعم وأشمل من الجانب المادي ، بل جعلها - صفة متعدية - تشمل حتى القيم والأخلاق ، وفي هذا السياق نفهم مقولة الحسن البصري عن ذلك الرجل الذي زنى بإمرأة ، فقال عنه : ( هو أنجسها – إذن - فهو أحق بها ) – أساس البلاغة للزمخشري ص 447 .
ويدخل في هذا الباب كذلك - نجاسة الشيطان - والتي هي مفهوما ذهنياً تسالمياً ، ويطلق على كل فعل يفعله الناس فيه مكر وخداع وتضليل ويريدونه يسمونه - عمل شيطاني نجس - ، وعليه فلا يصح تخصيص و حصر معنى النجاسة بالذاتية كما هو مُراد المعنى الإصطلاحي .
كما ولا يصح الربط بين معنى النجاسة هذا ومفهوم منع المشركين من زيارة البيت الحرام ، لا بسبب ذلك أو لمجرد توارد سياق اللفظ مع قوله : ( فلا يقربوا المسجد الحرام ) ، فالذي نفهمه من سياق النص : إن المنع من دخول المسجد الحرام كان بسبب علة خاصة ، وليس بسبب نجاستهم الذاتية ، أي إن المنع كان بسبب ما فعلوه من نقض للعهود والمواثيق مع رسول الله ( وهذه علة طارئة ) ، كذلك ولا يصح الربط بين مفهوم نجاسة المشركين ومفهوم الخوف من النقص المادي ( العيّلة ) ، على إعتبار ان مبنى القول اللاحق وأداة الشرط الواردة في النص : ( وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله ) وردا في سياق إتمام الحجة على المعترضين ، بدليل أن النص إنما يتحدث بلسان حال ما يمكن قوله من قبل الأخرين ، وليس في صحة قولهم .
والملفت أن كثيراً من المفسرين لا يفرقون ويخلطون بين ( من كفروا من أهل الكتاب وبين المشركين ) ، مع ان الله قد ميز وفرق في كتابه ذلك ، وبنصوص متعددة ومنها قوله تعالى : ( ان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم ) - البينة 6 ، ومنها قوله تعالى : ( لم يكن الذين كفروا من اهل الكتاب والمشركين منفكين ) - البينة 1 ، والواو هنا للمغايرة قال الكسائي وللتمييز بين مختلفين ، سواء في الطبيعة أو في الماهية أو في الإيمان والتفكير ، وليس بين اللفظين وحدة معنى ومفهوم .
وأما بالنسبة للقول الثاني :
فجهة إستدلال القائلين به على نحو : ( إنما المشركون نجس ) ، أي بسبب نجاسة ما يأكلون، وهذا الإستدلال ركيك جداً ولا يصمد أمام النقد والتمحيص ، إذ لا علاقة بين نجاسة المأكول والآكل ، فالنجاسة بهذه الحالة لا تنتقل بالتبعية من المأكول إلى الآكل ، وفي وصفنا للنجاسة قلنا : - ان من صفاتها عدم الملاصقة للمتنجس بها - ، لأن النجاسة في أصلها عرض زائل تزول بزوال سببه ، والامتناع عن الأكل النجس سبب كاف في زوال النجاسة .
وإذا كان ذلك كذلك : فيصح إذن القول : ( ان المشركين اذا تطهروا من النجاسة فلا مانع من حجهم وزيارتهم إلى البيت الحرام ) ، وهذا القول أو التقرير يكون بمثابة نفي المنع على نحو مطلق .
وأما بالنسبة للقول الثالث :
فالاستدلال بالمنع من الحج بسبب الجنابة أو غيرها من النجاسات ، إستدلال ركيك بل متهالك إذ الجنابة هي عرض زائل ، والأعراض الزائلة لا يكون المرء بسببها نجساً ، وكل العوارض من هذا القبيل تزول بالتطهير بالماء وغيره من المطهرات ، ولهذا لا يكون وجود الجنابة سبباً كافياً في المنع من الحج والزيارة وعلى نحو مطلق .
واما بالنسبة للقول الرابع :
فجهة الإستدلال بالنص لما يعتقد به الناس لذلك هم محكومون بقوله : ( إنما المشركون نجس ) ، وهذا الإستدلال باطل كذلك ، لأن الله أباح حرية الإعتقاد وجعل الإيمان مسألة شخصية تخضع لضوابط المعرفة والتدبر والعلم ، ونفى المولى الإكراه والعنف والإبتزاز في ذلك وكما قلنا : إن مفهوم الإعتقاد أو الإيمان يرتبطان بالفكر و بالحرية ، لأنهما من المسائل التي تخضع للإختيار عبر الدليل والبرهان ، و لذلك ترك المولى شأنها للناس فقال : - ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) – الكهف 29 .
والنص مورد البحث لم يربط مفهوم النجاسة بالإعتقاد مطلقاً ، بل إعتبر من يكره الناس على الإيمان ليس مؤمناً قال تعالى : ( أفانت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) - يونس 99 ، معتبراً الإكراه هذا بمثابة - المطلقة السالبة الملازمة - .
إذن فالإستدلال بالنص من جهة الإعتقاد وإعتبار النجاسة من هذا الباب مانعة لهم من دخول المسجد الحرام ، إستدلال باطل كما قلنا لا يمنع من دخول المسجد الحرام وزيارته .
وخلاصة الكلام :
في معنى قوله تعالى : : - ( إنما المشركون نجس ) ، ظهر لنا إن هذا القول لا يحمل معنا عاما ، أي لا يجوز تعميمه على كل أفراد لفظ المشركين وعامتهم ، كما ولا يجوز حصر معنى المشركين بالمعنى الإصطلاحي الفقهي ، كما ولا يصح إعتبار النجاسة شيئا ذاتيا أو عينيا ، ذلك لأن النجاسة في طبيعتها عرض زائل ولا تكون ذاتية مطلقاً .
وأما المنع من دخول المشركين البيت الحرام فلم يكن منعاً مطلقاً ، كذلك ولم يكن بسبب ما يعبدون من أصنام ، ولهذا لا يجوز إعتبار المشركين نوعا واحدا أو فئة واحدة ، إذ المشركين بلسان النص فئات متنوعة ، وما عناهم النص المتقدم إنما هم ، [ فئة معينة خاصة من المشركين لا جميعهم ] ، وهذه الفئة : ( هي تلك الجماعة التي نقضت عهدها مع رسول الله ) ، والتي وصفها الكتاب المجيد بقوله : - ( كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلاَّ ولا ذمة ) - التوبة 8 .
أقول : هذه الفئة من المشركين هي التي لا يصح دخولهم المسجد الحرام على نحو معين وبزمن معين ، وصيغة الخطاب هذا تدل على ذلك ، بدليل البيان التالي : - ( إلاَّ الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فاتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) - التوبة 4 ، ففي هذا البيان نجد أن نفي ( تعميم المنع ) واضح بيَّن ، هذا بدليل التقابل الذي يؤكد على أن الفئة التي حفظت عهدها مع رسول الله غير مشمولة بالحكم ، الذي صدر بحق تلك الفئة التي قال عنها الله - ( إنما المشركون نجس ) ، ويؤكد هذا دعوته تعالى للإستقامة مع تلك الفئة التي حافظت على عهدها ولم تنقظه ، قال : ( فما أستقاموا لكم فاستقيموا لهم ) - التوبة 7 ، وفعل أستقام يدل على الثبات في الموقف ، ولهذا أمتدحه الله بصيغتي الفعل والصفة :
قال تعالى : - ( فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ) – هود 112 .
وقال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا .. ) - فصلت 30 .
وقال تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم أستقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .. ) - الأحقاف 13 .
إن تصحيح الفكر و الإعتقاد عملية مهمة وشاقة ، ولكي تكون مؤدية للغرض يجب ان تتكأ في ذلك على كتاب الله ، وليس على ذائقة الفقهاء وتقليدهم لمن سبقهم ، ولأن هذه المهمة كذلك تطلب الأمر رفضا لترجيح مقالات الفقهاء على نصوص الكتاب المجيد ، لأن في ذلك مخالفة و مغامرة غير محمودة ، والمشركون وفقا لمنطق الكتاب المجيد ليسوا واحدا ، وكذلك هم في لسان العرب ليسوا سواء لا في المعنى ولا في الموقف ، بل هم فئات متنوعة والحكم الصادر بحق البعض منهم لا يشمل البعض الأخر ، ونسبة النجاسة للبعض منهم لا تصح على البعض الأخر طالما أرتبطت النجاسة بالسبب ، والذي هو دائماً سببا مفارقا بكل تأكيد ، لأنه سبب جدلي يصدق على كل ما يمكنه ان يكون كذلك .
تنبيه 1 :
فإن قلتم : ماذا لو كان المُراد من نجاسة المشركين جميعهم ؟ .
قلنا : لو كان ذلك كذلك ، لتطلب الأمر بطلان القول بحليَّة طعامهم مطلقاً ! ، في حين ان الله أباح لنا طعامهم جميعاً ، حيث قال تعالى : ( . وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ ..) - لمائدة 5 ، والحليَّة بصيغتها المتقدمة وردت على نحو مطلق ، والقيد الوحيد الذي ورد فيه التذكير ، هو بالتذكية أي ذكر أسم الله عليه ، وهذا الشيء يصدق كذلك على ما علمتم من الجوارح مكلبين ، وبهذا يرتفع الحرج من النجاسة الظنية التي يذهب إليها البعض من غير حاجة شرعية ، سوى التكلف والإحتياط الزائد المبالغ فيه .
تنبيه 2 :
فإن قلتم : وكيف يمكن تبرير قوله تعالى : - ( وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح أبن الله .. ) – التوبة 30 .
قلنا : إن هذه الجدلية المثيرة يتبادر منها إلى الذهن ، صفة الشرك التي هي ضد التوحيد ، والحق إن النص لا يعني هذا إنما يُركز على مفهوم أخر ، ليس له علاقة بالعبادة والتوحيد ، ونفي القول من جهة الله إنما يتناول مفهوم الخصوصية من جهة الرعاية والتعليم والتربية ، مع أهمية عزير النبي وعيسى النبي ، والكتاب المجيد لم يقل إن ( عزيرا ولد الله أو المسيح ولد الله ) ، لأن مفهوم الولد ممتنع على الله بحسب المنطق التالي ( لم يلد ولم يولد ) ، والذي ورد على نحو المطلقة السالبة ، وبالمقابل رفض الكتاب فكرة بنوة الله لأحد من البشر على نحو خاص ، وكذلك رفضها بإعتبارها دعوة ترسخ المفهوم السلبي لله في ذهن العامة ، فيظنون ويكأن العزير أو المسيح هم أولاد الله ، من هنا أنطلق الرفض لذلك قال : - ( لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة .. ) - المائدة 73 ، ولم يقل ( لقد أشرك الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة !! ) فتدبر ..
آية الله الشيخ إياد الركابي