شكل أبو العلاء المعري إضافة إلى لفيف من المثققين في الإسلام ظاهرة فريدة ونعني بتلك الظاهرة الخروج عن التفكير السائد وعدم الانحياز إلى ثقافة المتن ، لعبة الحاشية والمتن شكلت تجاذبا كبيرا في الثقافة الإسلامية ، تلك الثقافة التي وسمتها السلطة بميسم الطاعة والتبجيل والخضوع عبر ترسانة من القواعد السياسية والدينية والأخلاقية جعلت من يرفض يعاني من الإقصاء والغربة المريرة كما وصفها أبو حيان التوحيدي صاحب كتاب مثالب الوزرين وكما عاشها فقيه قرطبة ابن رشد.
هل كان أبو العلاء اشتراكيا؟
من الصعب الإجابة عن هذا السؤال ومن اليسير القول أنه كان نباتيا، ومتشائما، وسيء النظرة للمرأة ولكن من الصعب الجزم باشتراكيته
إن ذلك يعني وجود مذهب اشتراكي واضح المعالم ينضوي تحت لوائه المفكرون والفلاسفة والشعراء، وهذا ليس حاصلا مع الإسلام إنما الذي حصل هو وجود أفكار اشتراكية ذات منزع إنساني في الأصل وربما ديني بالمرة ترى أن الحياة الكريمة في المحصلة هي نصيب الناس جميعا وأن الغنى الفاحش للبعض إنما تم بفقر العامة وذلك ما نجد عند أبي ذر الغفاري الذي حاج الخليفة عثمان بن عفان وواليه معاوية والي الشام إلى درجة أن اعتبر الزكاة غير حاصلة لأن المسلم لا يحول عليه الحول وماله موجود نظر لإنفاقه في وجوه البر، نقد مر وجهه أبو العلاء للسلطتين السياسية والدينية وتحلييل ذكي للتحالفات الموجودة بينهما لجلب الدنيا كما قال:
إنما هذه المذاهِبُ أسبابٌ لجذبِ الدنيا إلى الرّؤساءِ
الباحث عن منابع الفكر الاشتراكي في الإسلام لن يخظئ القصد فكثير من الباحثين اتفقوا على نزعة أبي ذرالإشتراكية ولا ريب أن المعري شكل يسارا إسلاميا مواجها لليمين بثقافته ونسقه المعرفي وتحالفاته.
وإنما نعني باليسار الحركة الاحتجاجية ذات المنحى الإنساني في الأساس والتي تعطي للعقل مركزا مهما في الحياة وتنتقد أشكال التدين الطقسي التكراري وتدين الانتهازية السياسية والتحالف الديني السياسي والذي أدى إلى شل حركة الفكر وعدم وجود مناخ سياسي متفتح وفي المحصلة تقسيم المجتمع إلى فئتين فئة بيدها الثروة وفئة خلو منها وللأسف إن الثانية هي الكثرة الغالبة،وإن عجبت فاعجب لحال أمة مازال هذا واقعها في حين كرست الدسلتير الغربية والنضالات النقابية حقوق العمال وحقوق الإنسان مما أتاح لحال مجتمعات الأنوار أن تنعم بالثروة وحتى ممارسة السلطة بشكل ديمقراطي نسبي ولكنه إنجاز بشري رائع.
ويمكن إدراج النضالات الإسلامية في خندق اليسار كما شرحناه سابقا بدء بأبي ذر ومرورا بأبي العلاء وبأبي حيان التوحيدي والحلاج المتصوف وغيرهم.
يرفض أبو العلاء النزعة الفردية التي تجعل الإنسان نمطا قارونيا فاحش الغنى وفي المقابل وجود المعوز والفقير ولذلك هو يرفض الفردوس إذا كان من نصيبه بمفرده مقابل الخصاصة للعامة:
ولو أني حبيت الخلد فردا
لما أحببت بالخلد انفرادا
فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا
وانظر إلى صريح كلامه عن اشتراكية الناس في ضرورات الحياة الماء والكلأ والنار في الحدود الدنيا:
لو كانَ لي أو لغَيري قدْرُ أُنْمُلَةٍ
فوقَ الترابِ، لكانَ الأمرُ مُشترَكا
ولتحقيق المصداقية لأفكاره أقصى المعري نفسه من بلاط الخلفاء والوزراء والأعيان حتى لا يتهم بالازدواجية والشخصية الفصامية وتمادى في ذلك فحرم على نفسه لحم الحيوان ومشتقاته وحتى الزواج والنسل ولاشك أن هذه حالة مرضية غير مقبولة ولكن الذي نعول عليه هو الجانب الإنساني في فكره وأدبه فهو أدب يحتفي بالإنسان ولا يني يفضح عوار الإنسان وأدب ينتقد السلطة ويدينها وأدب يحمل حملة شعواعلى التدين الطقوسي التكراري والتقليد الأعمى للماضي فكرا وممارسة.
نحتاج في حياتنا المعاصرة إلى الاحتفاء برموز الفكر اليساري بدء بأبي ذر ومرورا بأبي العلاء وأبي حيان والحلاج وابن رشد وحسين مروة وغيرهم لمواجهة ثقافة يمينية كرست الطبقية البغيضة والاجترار الأعمى والخضوع التام للهيمنة الغربية الإمبريالية والتي أدت إلى إبادة معالم الإنسان وجعلته مجرد كتلة تلهث باحثة عن القوت في الوقت الذي تنهب ثرواته وتخنق حريته وتباد معالم الإنسان فيه.
ما أحوجنا إلى الاحتفاء برموزنا العربية ذات المنزع اليساري والإنساني وجعلها نبراسا لعله يضئ لنا مدلهمات الطريق.