لفظة عقد وجمعها عقود هو لفظ صحيح المصدرثلاثي الرسم - ع، ق ، د - قال أبن حزم : والعقد هو الجمع بعد التفريق .. وفي الموطأ : عقدّ أي جمع ولهذا ذهب أبن فارس والزجاج وكذا قال الزمخشري : عقدتم الإيمان أي جعلتموها ملزمة وأكيدة .. وقد أستخدم هذا اللفظ في
الإصطلاح للتدليل على أهمية فعل المتعاقدين سواء أكان ذلك في مجال التعاملات التجارية أوالسياسية ، وقد تم توظيف هذا اللفظ بمعناه بكثافة في المجال الإجتماعي العام ، باعتباره ذو صفة قانونية ملزمة تجعل من صاحبها ملتزم بما تعاقد عليه ، وهذا الإجراء القانوني هو المراد من معنى العقد في صيغة الميثاق الذي ورد ذكره في التنزيل الحكيم في باب العلاقة الزوجية بين الذكر والأنثى ، ولم يستخدم النص لفظ العقد في هذا المجال أعني مجال العلاقات الزوجية بل ثبت محله لفظ الميثاق ، ولذلك أتبع المشرع القانوني هذا المعنى لا بصيغته اللفظية الجامدة بل بمعناه ولهذا يوصف الدستور في كثير من الأحيان بأنه - الميثاق - وهذا التعبير اللفظي جارياً في معظم الأحزاب السياسية فتطلق على قانونها التنظيمي مسمى - الميثاق - ونحن معهم نميل إلى هذا التوظيف حتى في تسميتنا للعقد ، فنقول للعقد الإجتماعي هو الميثاق الإجتماعي وهذا منا إطلاقاً حقيقاً وليس مجازياً .
ونقول إيضاً إن الإنسان قد وجد لنفسه منذ سالف الزمان نوعاً من صيغ التعايش القانونية التي تمكنه بل تجعله قادراً على الحياة مع الغير وقبول الآخر المختلف معه في اللسان واللون والطباع ، لكن هذه القدرة قد واجهتها جملة تحديات و صعوبات سواء في الفكر و الممارسة ، وقد كانت تلك الصعوبات من الخطورة بمكان بحيث تؤدي إلى نوع من الصراع الدموي في كثير من الأحيان صراع أممي ، وصراع طبقي صراع وجود ، وصراع هوية ، وصراع إنتماء .
ولقد عاشت البشرية هذا الصراع بكل أنواعه وصنوفه وكان في الغالب العام تتحكم فيه المصالح الذاتية والأستبداد والتملك الذي ساد في حقب التاريخ القديم والحديث ، بصور متنوعة ولم تكن دعوات الفلاسفة والمفكرين من عصر النهضة الأوربية منفكة أو منفصلة عما سبقها من دعوات تبناها أنبياء ومصلحون لصياغة وبناء قواعد قانونية صحيحة - للعقد الإجتماعي - الذي نقرأ بعض فصوله لدى جان جاك روسو ولدى منتسيكيو وبودان لم يكن منفصلاً في جوهره عما مضى من محاولات في هذا الشأن ، وقد عُدت هذه الصيغ التي أعتمدها فلاسفة النهضة بمثابة القوانين التي تساهم في تحرر الشعوب والأمم وتعطيها المزيد من القوة في مجال الحريات وتحقيق المساوات والعدالة، نعم كانت تلك المبادئ ضروريه ولكنها لم تكن كافية أو مستوعبة لكل تطلعات بني الإنسان على إختلاف ملله ونحله ولكنها خطوة في الإتجاه الصحيح ، فيما لو علمنا ان كثيراً من مفكري النهضة لم يكن على دراية تامة أو قد أحاط بكل شيء فيما يخص دول العالم الثالث في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية ..
ويجب ان لايغرب عن البال : الدور الذي أضطلع به الفكر الديني وهويساهم في علاج مشلكة الإختلاف الأممي هذا محاولاً وضع الحلول دون التصورات وقد جاءت تلك الحلول بشكل نصوص دينية من اجل التخفيف من حدة الصراع والتقريب من وجهات النظر على قاعدة - إن أكرمكم عند الله أتقاكم - ناسفاً كل التصورات والمفاهيم الخاطئة التي تباعد بين الناس وهذه القاعدة نجدها في كل الديانات التي تحترم نفسها وتنتسب بشكل صحيح لله وخاصة في التنزيل الحكيم .
وطبعاً نحن نعني هنا بالفكر الديني هو مجموعة النصوص الإلهية المقدسة وليس التفاسير الدينية لهذه النصوص ، أعني ليس مايقرره وما ينتجه رجال الدين أو علماء الدين مع أهمية ذلك في بعض الأحيان ، ونريد من ذلك القول بان النص بما هو هو دال على المعنى الذي نحن بصدده من دون تفسير وهو المسؤول عن بيانه وتبيينه ..
ثم إن مفهوم - إناّ جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا - إنما يتحرك في سياق هذا المعنى ، الذي يعني عندنا معنى الصيرورة والتحول في العقل والإرادة والتوجه لدى الإنسان وهذا هو معنى الجعل في التنزيل الحكيم - والجعل صفة دائمة الحدوث تتبع سيرورة الإنسان وقدرته العلمية والمعرفية - ونعني به ذلك التحول المنطقي حين تحول البشر إلى إنسان ونعني بهذا التحول هنا : هو هذا الذي تبع تحول البشرمن صفته الأولى إلى صفته الثانية التي صار معها - إنساناً - .
وهذه جدلية مادية لخصت لنا معنى التحول الديناميكي هذا في وحدة السياق واللفظ من دون تعارض ، و أسست لنا في الوقت نفسه القاعدة القانونية والعلمية التي تقوم عليها العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان نافية في الوقت نفسه وفي اللاوعي نظرية الإختلاف والتناحر ، وإذا تم هذا يمكننا تحليل تلك الظاهرة وفق نظام أو مبدء العلاقة بين الإنسان والطبيعة أو بين الإنسان والكون و الذي هو جزء منه لاينفصل عنه ، وهذه العلاقة يمكن النظر إليها من مستويين مادي وموضوعي وهي لاتنفصل في الأثنين لأنها في النهاية تخضع لقانون التبادل الطبيعي القائم على أساس المصالح المشتركة ضمن مبدأ - لا ضرر ولا ضرار - هذا المبدأ يمكن إعتباره قاعدة قانونية من قواعد العقد الإجتماعي الذي نحن بصدد مناقشة بنوده وفصوله الموضوعية والتي أُسس من اجلها ..
مع التنويه بأننا هنا إنما نريد بحث العلاقة المجتمعية التي تتعلق ببناء الدولة والأمة العراقية ، ولقد كان هذا الإستطراد التاريخي الذي قدمناه بمثابة البداية الواجبة عند كل بناء ، وسنلتزم بتطبيق المنهج العلمي في ذلك وسنترك الحكم للأمة العراقية فهي المعني بذلك أولاً وأخيراً ..
الأمة العراقية : هي ذلك التكوين الطبيعي للوجود الديمغرافي والجغرافي لجماعة بشرية معينة لها صفات محددة يعيشون على رقعة من الأرض ذات ملامح وخصوصية تميزهم عمن سوآهم ، وهنا يجب ان يُعلم بأننا لانريد من لفظ – محددة – الوارد في سياق التعليل [ المعنى الحرفي بل نريد منه المعنى العرفي ] سواء في دلالة المفهوم أوفي الخطاب وفي التسالم ، وإذا تم هذا فيمكننا القول بان الأمة العراقية : هي عبارة عن ذلك المزيج المركب بين ماهو إجتماعي وماهو جغرافي ...يسمى العراق ويسمى شعبه العراقيون ...الذي هو نسيج متنوع لكتلة بشرية من قوميات وأثنيات ومذاهب دينية تحكمها تطلعات ورؤى واحدة وسلوك في التربية والثقافة والتاريخ واحد ..
وقد أختُلف في تعيين سعة وحجم هذه الأمة من حيث الواقع التاريخي لها والمساحة الجغرافية بل وفي تعيين حدودها على نحويمكن الإعتماد والركون إليه وهذا الكلام منا لايتناول قطعاً وضعها الحالي المعروف مع إتفاقية - سايكس بيكو وملحقاتها - بل هو سابق لها ويعني عندنا الوضع التاريخي والسياسي ولنقل مع وجود الدولة الإسلامية التي إنتقلت من الجزيرة العربية ، وفي هذا هي – أي الأمة العراقية - ليست ذات صبغة واحدة يمكننا معها تغليبها على الصبغات الأخرى بل هي مزيج من أعراق شتى وجدت في هذه الأرض ذاتها فشكلت حضاراتها وممالكها والتي تمددت بعيداً إلى اطراف أمم وممالك أخرى
وكلها كانت تقع تحت ظل مسمى هذه الأمة سواء من حيث الإنتماء والهوية أومن حيث الولاء والخضوع .
وبما اننا نتحدث عن الأمة العراقية في سياق وضعها التاريخي فاننا يجب ان نؤمن بان هذا التاريخ نفسه كان محكوماً أو مؤوسساً وفق إرادة الحاكم المستبد!! سواء أكان حاكماً دينياً أو حاكماً قومياً ، ولهذا ليس من الحكمة ان يدعي أحد بانه ليس عراقياً لمجرد إنه ينتمي إلى مذهب قومي معين أو لطائفة دينية معينة فالمعيار في العراقية كمصطلح وكموضوع هو في الغاية من نشوء الدولة وفي القيم التي تتسع للجميع والتعليل بالإنتماء القومي المعين أو الديني المعين لا يعطي الحق لمن يرغب خاصة في ظل المتغير الدولي والأقليمي والقطري ، وكذا مع تنامي الشعور الديمقراطي لدى الأمة ومكوناتها ، وكذا تنامي روح الإيمان بالتعددية الفكرية والثقافية والسياسية وتنامي الشعور الشعبي بالمشاركة في الحياة السياسية كل هذا دعم الموقف من قضايا تقرير المصير والفدرالية والحكم الذاتي .
كما يجب العلم بإن الأمة العراقية هي ليست ذات طبيعة واحدة حتى يمكن الإنسلاخ منها بحجة عدم الإنتماء إليها ، بل هي ذات طبايع متعددة بتعدد مجاميعها البشرية والثقافية المكونة لها ، والإنتماء للعراقية كمفهوم وكهوية لا يلغي الإنتماءات الخاصة والهويات المحلية بل هذا التنوع يعطيها قوة ومتانة في كون هذا المنتمي قد تحرر من عقد الذاتية والمحلية والشعور بالمهانة التاريخية وأنطلق في فضاء الأممية التي تشكل معنى الوطن في السلوك وفي التبادر الذهني الذي يشير لهذه الحقيقة ، و منطقياً ونفسياً يُعد هذا التوجه هو القادر وحده على تحرير العقل و الذهنية العراقية من خطابات الإنغلاق والشحن الإنفصالي والتفكير الضيق ضمن الزوايا الحرجة ، ولايخفى إن ذلك من مخلفات طبائع الإستبداد وسلوكه .
إن بناء الدولة القطرية الحديثة القائمة على الخيار الديمقراطي هي وحدها القادره على نفي الفكر الإنفصالي والفكر الوحدوي القهري وهي القادرة بالفعل على نفي كل مسببات النقص في الشعور الوطني لدى البعض ، وهذا الخيار يلزم المكونات الإجتماعية للأمة العراقية رفض كل ما من شأنه تعليق دور العراق الأقليمي والدولي أو التقليل من فاعلية السلطة القطرية والمحلية ..
من هنا فالأمة العراقية هي كيان وحدوي غير مؤدلج تحكمه منظومة قيم في العدل والحرية والسلام تؤوسس له القاعدة القانونية في بناء دولته القطرية التي هي دولة الإنسان العراقي ..
وهذا الإجراء يلزمه مايلي :
1 - رفض منطق المحاصصة الطائفية وكل ماترتب عنها فمقدمة الخطأ خطأ .
2 - إعادة النظر في الكثير من بنود الدستور المتعلقة بهوية العراق الوطنية وبتعريف النظام السياسي والأمني للعراق .
3 - إعادة النظر في بنية النظام الإقتصادي للدولة العراقية في مؤوسساته وتحرير القواعد القانونية بشأن قانون النفط والغاز والثروات الطبيعية .
4 - تعريف قانوني وشرعي لمعنى رأس المال ومصادر الثروة والملكية وحدودها وما يتعلق بباطن الأرض المملوكة للأفراد .
5 - إعادة النظر بنظام الإدارة وقوانينه وفك الأرتباط بين ماهو سياسي وماهو إداري وظيفي ، يتبع ذلك تعيين الكيفية التي تتم بها توزيع الصلاحيات في الأقاليم و المناطق والبلديات والمحلات .
6 - إعادة النظر في بنية وهيكلية النظام الأمني من الجيش والشرطة والمخابرات والإستخبارات ، وتحرير العلاقة مع هذه الأجهزة سياسياً ومناطقياً وطائفياً .
7 - تحديد صلاحيات المسؤولين في الدولة القطرية و في الأقاليم ومنع التداخل الحاصل .
8 - تعريف دقيق لمعنى - مفوضية الإنتخابات - وتحديد صلاحياتها في الدولة وفي الأقاليم .
9 - الفصل الدقيق بين السلطات ومنع التداخل والإحتكاك ورفض التدافع السلبي عبر قانون ملزم يتم الإتفاق عليه .
10 - وضع قانون جديد للأنتخابات مغاير للقانون الذي تكون بفعل سلطة إدارة الدولة ..
وبما إن الأمة العراقية هي ليست فكرة أو شعار تعبوي يستخدم في إيام الأزمات بل هي تكوين مجتمعي له حقوق وعليه واجبات منها :
1 - رفض التبعية للغير وتجديد الولاء للوطن من خلال مؤوسساته الدستورية والشعبية .
2 - رفض تكوين العراق على أسس ثيوقراطية ، وجعل المواطنة حق للجميع مع توافر الشروط القانونية .
3 - الإيمان بمبدأ الفدرالية الإدارية والمناطقية وجعل ذلك مؤوسس على قواعد قانونية وشرعية على إن يعتبر ذلك الإيمان مرهون بالأستفتاء الشعبي الذي يعطية الشرعية في الشكل والمضمون .
4 - فك الأرتباط بين المؤوسسة الدينية والسلطة السياسية وتحديد صلاحية رجال الدين في الوعظ والارشاد .
5 - تعميم المبدء العلماني للدولة وتعميق ثقافة التسامح والديمقراطية وترسيخ مفهوم الهوية الوطنية وزيادة رقعة المصالحة وتعميم مبدأ عفى الله عما سلف فيما يترتب من قضايا للعهد البائد وليكن شعار المرحلة – أذهبوا فأنتم الطلقاء - .
6 - وضع القواعد الصحيحة لتحرير المرأة بعيداً عن الشعارات والخطابات ووضع القوانين الدستورية الملزمة في ذلك .
7 - تخفيف العبء من على المواطن ووضع القانون الذي يحمي الطبقات المحرومة في الضمان الصحي والإجتماعي .
8 - تحرير سلطة الرأي من هيمنة التجاذبات السياسية ونعني به حماية أصحاب الفكر في توجهاتهم من دون رقيب .
9 - توسيع دائرة المشاركة الجماهيرية في كل شأن يهم الطفل والأسرة والمدرسة في التربية والتعليم .
10 - تطوير مناهج البحث العلمي والعناية بالمؤسسات العلمية مادياً وبحثياً .
*
من هنا يمكننا إعتبار الدولة القطرية هي الحاضنة للأمة العراقية بكل تعددها وتنوعها ، والولاء لها يجب ان ينطلق من قواعد العقد الإجتماعي والميثاق الوطني ، ذلك العقد الذي يجب ان يكون فيه الإنسان العراقي هو الغاية وهو المنطلق ، بل ومن خلاله إيضاً يتم الإتفاق على القواعد القانونية والسياسية التي تبيح لمن يرغب من مكونات هذه الأمة بالأنفصال أو الإستقلال حتى !! أي إنه لايجوز الخروج عن مبادئ العقد الإجتماعي إلاّ ضمن ظروف قاهرة كالإنقلاب على الديمقراطية ، أو محاولة الأستئثار بالسلطة من قبل البعض بحيث يمنع معه المشاركة في قضايا الوطن ، وبتعبير أدق متى تم إنتهاك السيادة لدى أي من مكونات الأمة العراقية ، ومن هنا يمكن توصيف العقد الإجتماعي بالرباط والوثاق الذي لايمكن التخلص منه بناء على الرغبة والهوى ، إن الشعور بالمسؤولية الوطنية وبالقيم الإجتماعية والإيمان بالمستقبل ونبذ التطرف والإنغلاق والإيمان بان الوطن هو للجميع والثقة بالآخر وعدم الإنجرار وراء الدعايات المفرقة والعمل المشترك والتساوي في فرص العمل وتحقيق الرفاهية وسد العوز والفقر وتطوير البنى الوطنية والخدمية ، وتسخير الإمكانيات والثروات من اجل البناء ، ونبذ كل ما من شأنه تعكير صفو الحياة السوية ، كلها عناصر ستساهم بالتأكيد في بناء وتأسيس الوطن الواحد الذي طال إنتظاره .. بالعدل والحرية والسلام تزدهر الأوطان وتبنى وتتقدم ..
الدائرة القانونية
الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي
30 – 10 - 2007