حال العراق كما هو حال شعوب العالم الثالث ، يصعب الإنتقال به من الحكم الشمولي الدكتاتوري إلى الحكم الديمقراطي ، من دون ممهدات ومقدمات وتعاليم وأبجدية في الثقافة الديمقراطية والوعي المجتمعي ، وكيف يمكن إدارة الدولة والمجتمع ؟
، ولهذا رأينا كيف عمت الفوضى سلوك السياسة والمجتمع في العراق ؟ كما رأينا كيف عمت الفوضى ثقافة المجتمع وإقتصاده وسلوكه اليومي ؟ ، وبدلاً من السعي لخلق روح التعايش بين المكونات الطبيعية للشعب ، حل مكان ذلك التدافع السلبي بين سياسين ومغامرين وأهل هوى ، كما نصب البعض نفسه ممثلاً من غير تمثيل ، فضاعت الحقوق وتضاعف الهم ، وسعى البعض ليستعبد الناس من جديد وتحت ظل شعارات وكلام كثير .
من هنا كنا نقول : إنه كان يجب على الإدارة الأمريكية أن تعي هذه الإشكالية قبل التفكير في وضع الشعب بفوضى ليست خلاقة ، إذ ليس من السهل المجازفة بتاريخ الأمة العراقية نزولاً عند رغبة مغامر أو باحث عن الشهرة ، ولهذا لم تكتسب الحكومات التي تعاقبت على حكم ماتبقى من عراق ، على أية شرعية لها لا في السياسية ولا في إدارة المجتمع وتحقيق بعض أمانيه ، كما لم تمارس الحرية التي جاء التحرير من أجلها في خدمة المواطن وتطوير بُناءه المفوته ، بل على العكس زادت معاناته وتشرذم المجتمع ، ونشأة لديه ثقافات جديدة وافدة غير التي كان يطلبها ويتمناها ، فالحرية عوضاً من أن تؤسَّس للمواطنين قيم في التعامل الديمقراطي الجديد وفي فهم حركة سير العالم ، ساهمت عن غير قصد في تراجع وعي المجتمع تجاه حتى الرئيسي من قضاياه الفكرية وحاجاته اليومية .
وكنا في بدايات التحرير نقول : إن تطور المجتمع مرتبط موضوعياً بتطور قيم الحرية لديه ، وفي زيادة نسبة الشعور بالإرادة الحرة في الرفض وفي القبول ، وكنا نقول : أن العراق وبضل مالديه من مخزون فكري وثقافي وتاريخي قادر على صناعة وعي سياسي يخلق نمطاً في الحكم يتناسب مع حاجاته ومع مايريد ومايرغب ، نمطاًفي التعامل الإجتماعي منبثق من داخل وعي وحركة الناس يكون بالفعل ممثل لإرادتهم في العدل الحرية والسلام .
وفي هذا المعنى كنا ندعوا بالسر والعلانية ليكون الشعب صاحب الإرادة لا المجموعات ولاالتنظيمات ولا الفئات ، فالشعب هو هذا الخليط الذي منه ومن خلاله يصنع الذي يحقق له مايصبوا إليه ، وقناعتنا لازالت مستمرة في الشأن كون الشعب الحرّ قادر على إنتخاب ماهو ممثل له بالفعل ، يجسد أمانيه وتطلعاته وحين يكون ذلك كذلك ، فان الحكومة المنبثقة عنه ستمثل إرادته بالتأكيد ، وبالتالي يكون فيها خاضعاً لنفسه ، قال جان جاك روسو : لايحق لأحد الإدعاء بانه معبر عن سلطة الشعب ، مالم يأخذ هذا الحق بالإستحقاق والنزاهه ، إذ لا سيادة ولا حاكمية لمن يخل في هذا العهد أو يشوه إرادة المجتمع .
وبناءاً على ذلك ليس من حق أحد ان ينتزع السيادة من سلطة الشعب بعد الإختيار ، ، تحت أية حجة أو ذريعة، فالذي يحق له ذلك هو الشعب هو المجتمع ، ولا وصاية لأحد على حق الشعب في الحرية وفيما ينتخب ويختار ، وهذا في اللغة السياسية هو حق تقرير المصير السلمي .
لكننا نرى من جانب أن الحكومة القوية هي القادرة على تحقيق القدر اللازم من حقوق المواطنين وحاجاتهم بعدما أعتراها التشويه ، وفقدت المسؤولية الأخلاقية في رعاية المجتمع ، فالحكومة القوية لا يجب ان تكون دكتاتورية كما يتصور البعض لأول وهلة ، كما إنها لا تكون كذلك فيما لو ألتزمت ببنود الإتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة ، وهذا شرط مسبق للقول بان الحكومة القوية لازمة في هذا الوقت بالذات لقدرتها على حماية الحرية نفسها مما أعتراها .
فقوّة الحكومة عندي لها مايبررها في العراق بعدما أستهان الجميع وتكاسل الجميع وراح البعض يركض في تحقيق مكاسب وقتيه ، فهي لذلك حاجة ضرورية ولازمة من لوازم المجتمع في ظل غياب الأمن والنظام والعبثية من بعض الأفراد ، كما إنها لازمة لمواجهة جميع التجاوزات والمشكلات التي طرأت على حياة المجتمع ، وإستغلال البعض للفترة الإنتقالية لتوكيد نوع من الزعامات المحلية الهشه ، فالعراق حتى يكون دولة في المفهوم المتعارف ويشعر شعبه وجيرانه ومحيطه بانه مستقل وذو سيادة ، عليه تبني الحكم القوي فهو المنقذ في المرحلة المقبلة للسياسة والمجتمع .
ونحن في قولنا هذا نربط بين ثقافة مجتمعات العالم الثالث ككل وبين مفهوم الديمقراطية والحرية ، ولهذا نعتبر أن ثمة علاقة إيجابية بين الحكم القوي العادل وبين المجتمع الحرّ النشيط والطامح ليكون موجوداً بالفعل وليس هامشياً كما هو عليه حال العراق اليوم في محيطه العربي والإسلامي وفي أقليمه الشرق أوسطي ، ثم إن الحكم القوي لا يعني عندنا تقييد للحريات أو دعوة للأستبداد بالمفهوم الذي كان سائداً من قبل ، بل هو دعوة لحكومة مركزية قوية كما هو دعوة لحرية قوية في المحافظات والأقاليم ، كما لايذهبن بنا الفكر بعيداً للقول إن كل حكومة قوية هي حكومة بعيدة عن الحرية بل العكس هو الصحيح ، فامريكا ودول أوروبا حكومات قوية لكنها حكومات حرة وهذا ما نقصده ومانريده من كلامنا هنا ، والدول ذات الحكومات القوية لا تعتمد في السلطة على فئة الحزب الواحد أو الرجل الواحد ، بل هي شراكة لصيانة الحرية وحماية الدولة من دون تفريط ولا إفراط وهذه هي العدالة التي نؤوسس عليها مبدأنا الجديد .
ثمة شيء يجب التأكيد عليه هنا هو حماية الحريات العامة حرية الأفراد والمجتمع ، بحيث لا يقع التصادم بين مفهوم الحرية وسيادة القانون ، كما لا يقع التناقض بين السلطة وبين السعي لبناء الدولة القوية التي تُسخر قوى المجتمع وثرواته للبناء والإعمار ، ونجدد التأكيد بان الحكم القوي حماية للحدود الجغرافية التي أخترقت وعبث بها المفسدون والأرهابيون ودول مجاورة ، لا ترغب ان يكون العراق حراً وقوياً ، إنما تريده عبثياً ومقلقاً في شعاراته الفارغة عن الحرية التي من خلالها يتمكن الدخول وتنفيذ كل ما هو سيء في العراق ، كما لا يمكننا إلاّ القول بان الدول الحرة ذات الحكومات القوية تُحمى فيها الحقوق الدستورية والقانونية في الداخل وفي الخارج ، وتبين للكل مدى الحرص والإهتمام بالمواطن أين تواجد وأين كان ؟؟ .
وكنت في الماضي ولازلت ألتزم بما قلته سابقاً : إن الدولة بمفهومها السيادي هي غير الحكومة بمفهومها العام ، ولكن الربط بين قيم الدولة وحدودها وقدرتها مع قدرة الحكومة وقوتها ربط لازم بين ماهو واجب وماهو موضوعي ، في أصل الفكرة وفي لواحقها ، حتى لاينفك ذلك الربط عند أشد القائلين بمبدأ الفصل الذي تبناه وأعتمده البعض من مفكري السياسة والإجتماع الغربيين ، لكن عندنا يكون التلازم بين قوة الدولة وقوة الحكومة تلازم فيما ضروري وواجب ، في لحاظ رؤيتنا للواقع وللإعلام وللنظرة الإجتماعية العامة ، كما هي بلحاظ نظرتنا للعالم الخارجي من جهة أخرى .
ولا يظن البعض إننا في ذلك نُجّوز ما لا يجوز في الأدب والفكر السياسي ، بعد النزعة التي تبتنها النظم الدكتاتورية في تسخير قدرات الدولة لتحقيق طموحات شخصية ، بأستخدام الجيش وقوى الأمن في قمع المناوئين من الفكر المغاير ، واختزال تلك القدرة لمصلحة الشخص كما حدث في الحرب مع إيران والحرب في الكويت ، وهي خطوات مدمرة وكارثية ، أضعفت الداخل وهشمت حدود العراق فصار طمعاً لكل غازي لمن هب ودب من فرق الإرهاب والمرتزقة من بلدان الجوار الحاقدة .
إن قوّة الحكومة لا يجب النظر إليها ككونها الفزاعة في مواجة الحرية كما يزعم صغار النفوس ، بل هي ردم للهوة التي صنعتها الفوضى وإنعدام الإستراتيجية وفقدان المشروع الوطني في ظل صراع سلبي على فتات وبقايا من كراسي حقيرة ، كما إن القوة في الحكم لا تعني خلق مجتمع عسكرتاري كما هو الحال اليوم من ترهل مؤوسسات الأمن والجيش وتناقض أهدافها مع تناقض مكوناتها ، بل هي قوة لفرض نوع من السلوك السياسي والإجتماعي البعيد عن الزوايا الحرجة والثقافات المحلية ، وفي ذلك تكون الحكومة عنصر بناء لا عنصر هدم وهي تفعل ذلك لأن الشعب يريد ذلك بالفعل الآن .
وعلى العكس من ذلك فان العراق حين فقد ميزان القوة الداخلية شعر المواطن ، إنه مخترق وغير أمن على حياته ومعاشه ، ولو أضفنا إلى ذلك ما يعانيه بالفعل من مشكلات حياتيه ومعاشية يكون ما يطلبه منبثق من وعيه وحرصه ليكون فرداً محترماً له حاضر ويشعر إن له مستقبل ، ولا ينفصل قولنا هذا عن إلتزامنا بالديمقراطية في إختيار الحكومة وإختيار ممثلي الشعب ، وهذا يعني الإتكاء على قاعدة صلبه من الشعب وإراته الحرة .
كما لا يغرب عن البال إن الحكومة القوية المنتخبة من الشعب والمعبرة عن إرادته هي القادرة على الوقوف بوجه من يريد بالعراق وشعبه الشر ، كما إنها القادرة على خلق التوازن بين فئات الشعب وخلق روح البناء من خلال تنمية الطاقات وعدم الإستثاء والسعي لكي يشارك الجميع في البناء ، وإلغاء كل شعارات المرحلة البائدة من التعظيم والتفخيم ووضع مايناسب في مايحتاجه الشعب ، وفي ذلك قوة للداخل وشعور بالكرامة بعد ان ضاعت وتلاشت عبر ماحصل من نهب وسلب للكرامة تحت عناوين الطائفية والفئوية والجهوية .
إن الدعوة إلى قوة الحكم هو تعزيز لإرادة الشعب ، في ظل غياب ملحوظ للسلطة في المحافظات والأقاليم ، كما إنها الممكن الذي يعيد بناء ماهدمته الحروب والسيطرة على منابع الثروة ومصادر المال التي صارت نهباً لكل مُدعيّ ، مما ساد في ظل ذلك غياب النظام الإقتصادي وفقد الشعب الضمان الصحي وأنتشرت عن قصد أو بدونه سياسة رأسمالية جشعة تقتل الفقراء وتزيد من معانات المعوزين وأهل الحاجة وهم كثير .
كما لايذهبن بنا الظن إننا هنا ندعوا لمجموعة معينة أو فئة خاصة ، فسيادة القانون مهمة للجميع كما هي مهمة للفئات والتنظيمات التي تحترم نفسها وتسعى لكي تكون بالفعل مؤثرة في السلوك السياسي والإجتماعي والثقافي ، هي دعوة منا لردع عناصر الفتنة وسارقي قوت الشعب ، وهذا هو إيمان الليبرالية عند منظريها وعند من يريد لكي تكون الحرية أساس الحكم والنظام .
راغب الركابي