زيد بن رفاعة
الخميس، 26 ديسمبر، 2019
المرجع الشيعي العراقي علي السيستاني يحاول الظهور بمظهر المتعفف والزاهد في التدخل بالشأن السياسي، غير أن ما يحاك في داخل المرجعية بتصرف مباشر من نجله يكشف العكس ويثبت أنه صانع الحكم الحقيقي في العراق. لذلك تسعى الأحزاب والمسؤولون العراقيون للتقرب منه ونيل رضاه. دور جعل من المرجع السلطة العليا في البلاد من وراء الستارة لذلك استمرأه ولا يريد التفريط فيه سواء بالإبقاء على ذات الوضع أو عناصر الطبقة السياسية. لهذا فإن المرجعية تلعب دور ولاية الفقيه في الدولة العراقية، لكن مع طاقية إخفاء.
منذ نحو خمسة عشر عاما يتطلع العراقيون، الشيعة على وجه الخصوص، إلى خطبة الجمعة، من كربلاء، والتي يتناوب على إلقائها اثنان من وكلاء المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، وهما عبدالمهدي الكربلائي المشرف على العتبة الحُسينية، وأحمد الصافي المشرف على العتبة العباسية، نسبة إلى الأخوين الحسين والعباس ابني علي بن أبي طالب.
تمثل الخطبة وجهة نظر المرجعية الدينية في أمور السياسة العراقية، ليس العراقيون من ينتظرون تلك الخطبة إنما ينتظرها السياسيون الذين هم في السلطة، ليتفاخروا بقربهم أو بُعد خصومهم من عتبة المرجعية بالنجف، مما يوحي لنا أن المرجع لم يكن مثلما كشف وكيله أحمد الصافي بأنه مجرد ناصح للحكومة لا أكثر، إن قبلت قبلت وإن رفضت رفضت! بل هو صانع “ملوك”.
وهذا الأمر يتجلى بما حيك في داخل بيت المرجع، وبإشراف نجله محمد رضا، في تعيين رئيس وزراء أو خلع آخر، كذلك كان الأمر في تشكيل الكتلة الشيعية، منذ الانتخابات الأولى، والذي تحقق من داخل بيت السيستاني، ثم إن الهتاف الذي هتفه عناصر المجلس الإسلامي الأعلى الشيعي، في حياة رئيسه عبدالعزيز الحكيم “تاج تاج على الرأس سيد علي السيستاني” غني عن البيان. ويأتي هذا ليس من باب التوقير والاعتراف بالمرجعية بحدود الولاية الحُسبية أو الشرعية، إنما يفوق ذلك إلى الولاية السياسية.
صحيح أن تصريحات عديدة صرحت بها المرجعية حول عدم القبول بالأخذ بولاية الفقيه المطلقة، وبأنها لا تؤمن بمثل هذه الولاية، لكن تلك الأقوال تلغيها أفعال المرجعية نفسها، خلال تلك السنوات. لقد أوحت المرجعية، ومن خلال تدخلها المباشر في التصويت على الدستور ثم دعم القائمة الشيعية (2005)، واستقبال قادة الأحزاب والمسؤولين، بأنها لم تكن بعيدة عن ولاية الفقيه، لكنها في الوقت نفسه تحاول اتخاذ موقع المحايد بين القوى السياسية.
كان وكلاء المرجعية، في المحافظات والأقضية، يدفعون إلى انتخاب القائمة الشيعية، وأن للمرجعية تشكيلات تنظيمية في المحافظات والنواحي تحت عناوين شتى، تجذب الشباب إليها، بدعم مباشر من المرجعية نفسها، ولها ميليشيات ضمن الحشد الشعبي، أي أن تلك التشكيلات المسلحة تشرف عليها العتبتان الحسينية والعباسية.
تصريحات عديدة صدرت عن المرجعية تفيد بعدم قبولها الأخذ بولاية الفقيه، وبأنها لا تؤمن بمثل هذه الولاية، لكن تلك الأقوال تلغيها أفعال المرجعية
تمتلك العتبتان المذكورتان، ما يشبه الدولة، من مؤسسات اقتصادية وتعليمية وطبية، وعندما كشفت فضائية الحرة الفساد في داخل العتبتين وداخل الوقف الشيعي، وكل هذه المؤسسة تحت إشراف المرجعية، ثارت ثائرة الدولة نفسها، ومنعت فضائية الحرة من الوجود والبث من بغداد، إذا لم تُقدم اعتذارها! في حين أن الإعلام الخارجي يتناول مؤسسات ووزارات من دون أن تكون هناك أيّ ردة فعل من قبل الحكومة، لكن عندما تعلق الأمر بالمرجعية اتخذت الحكومة الإجراءات، وكأنها تناولت المحرم، أي الولي الفقيه وهو نائب الإمام المهدي المنتظر.
ربَّما هناك نزاع بين مرجعية النجف الممثلة بالسيستاني ومرجعية طهران الممثلة بخامنئي، لكن هذا لا يُلغي تصرف المرجعية في شأن العراق كولاية فقيه، ذلك إذا علمنا أن للسيستاني مقلدين كُثر داخل إيران، وهو نفسه إيراني الجنسية، لكن لم تخرج كلمة منه حول الشأن الإيراني، ولا بالتدخل الإيراني صراحة.
لكن الجمهور العراقي يفسر كلامه عندما يتحدث عن التدخل الأجنبي أنه يقصد إيران، وهذا بحد ذاته ليس كفاية، ولا يمكن لمعارضي التدخل الإيراني في الشأن العراقي أن يعتمدوه كموقف ضد إيران، ولا إيران يهمها هذا الغموض في تصريحات المرجعية، بل إنها تثني على السيستاني في كل مناسبة، ومازالت المرجعية غير معترضة علانية على الاحتلال الإيراني، ووجود قاسم سليماني ببغداد، لغرض الإشراف على إجراءات تعيين رئيس وزراء جديد، وهذا يحدث في كل مرة، دون الاعتراض عليه من قِبل المرجعية، لأنها تتحدث بالإيماءات والإشارات، وكأنها تحاكي لغة الخرسان، فإيران مطمئنة إلى هذا الخطاب المبهم تماما من قِبل المرجعية.
وجد علي السيستاني، والفاعل ولده محمد رضا وحاشيته، أنفسهم سلطة عُليا، يعود المسؤولون العراقيون كافة إلى تصريحاتهم، ويفسرونها للتطبيق، ولهذا فالمرجعية نفسها لا تريد التفريط في هذا الموقف، فلم يحصل لها في تاريخ العراق، وكذلك في إيران، قبل استيلاء آية الله الخميني على السلطة والمرجعية معا، فأصبح شاها جديدا بثياب المرجع وعمامته، فلا أحد يعترض عليه كونه يمثل السلطتين السياسية والدينية معا، بعد أن أزاح كبار المراجع من أمامه، كشريعتمداري مثلا.
غير أن الوضع لم يكن بعيدا بالنسبة للسيستاني، فهو وإن لم يكن سلطة، كمرشد أو ولي فقيه رسمي، لكنه حصل على طاعة الأحزاب الدينية المتمثلة بالسلطة، وهي تتنافس على رضاه والقرب منه. فمَن يُراقب الإعلام العراقي، أو الحزبي الديني، سيجد مثول السيستاني فيه، كقائد وولي فقيه، ولم يجر حديث سياسي إلا وذُكرت فيه المرجعية، وفسرت خطبها.
على ما يبدو أن المرجعية، وهي في هذه الحال، لا تريد تغيير الأوضاع، ولا تريد خسارة هذه الطبقة السياسية المطيعة لها، فتذكروا ماذا قال عادل عبدالمهدي، وهو يُقدم استقالته، قال: نزولا لأمر المرجعية! بينما حقيقة الأمر أنه كان يمثل المرجعية، واستقال بضغط من التظاهرات، التي لم تنتظر رأي السيستاني، بل إن السيستاني نفسه، ونقصد هنا إدارة مرجعيته، خشيت من تفاقم الوضع، وانتصار التظاهرات في تغيير النظام، وبالتالي خسارة السلطة الفخرية والفعلية في العديد من المجالات. لهذا يُشك أن المرجعية لا تلعب دور ولاية الفقيه في الدولة العراقية، ولكن مع طاقية الإخفاء.