النبوة : - [ هي المعرفة اليقينية يوحي بها الله إلى البشر عن شيء ما ] - راجع كتابنا رسالة في التوحيد والسياسة ص 73 - ، وفي هذا الوصف لمعنى - المعرفة اليقينية - التي ( يوحي الله بها إلى البشر ) ، يدلنا ذلك على طبيعتها وعلى معناها العام الذي يشمل جميع البشر من غير تمييز ، وهي التي تحصل للذكور وللإناث على حد سواء ، وهذا المعنى هو رد لما ذهب إليه غير واحد من علماء الكلام [ في تقييد النبوة بالذكور دون الإناث ] ، وليس من شك إن ماهب إليه هذا البعض في حقيقته دعوة جاهلية ، ذلك أن - المعرفة اليقينية - التي يحصل عليها البشر عن طريق الوحي لم يرد فيها حصر أو تخصيص بالذكور دون الأناث كما توهم هؤلاء .
ثم إن - الكتاب المجيد - لما عرف لنا النبي قال هو - إصطفاء - ، ولم يجعل معنى الإصطفاء خاصاً بالذكور دون الإناث ، ومعنى فعل - أصطفى - : يدل على الإختيار والإنتخاب بعناية ، المأخوذ من الأصل اللغوي للفظ والدال على الصفاء ضد الكدورة والتلوث من كل شائبة ، نقرأ ذلك في :
قوله تعالى : [ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي ] - الأعراف 144 ،
وفي قوله تعالى : [ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ] - آل عمران 33 .
وفي قوله تعالى : [ إنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ] - البقرة 247 .
والمعنى في هذه النصوص واحد وهو الإختيار ، الذي لا يكون ممكناً ومنطبقاً على معناه في مسألتنا إلاَّ حينما يكون من قبل الله ، الذي لديه علم تام بهذا المختار من بين الناس ، وفي نفس سياق المعنى وكما قلنا بإن - المعرفة اليقينية - لا تختص بالذكور دون الإناث ، فكذلك - الإصطفاء - لايكون منحصراً بالذكور دون الإناث ، وإليكم الدليل .
قال تعالى : [ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ] – آل عمران 42 - ، وهذا النص واضح الدلالة في أن - المعرفة اليقينية - التي حصلت عليها مريم العذراء جعلتها من فئة الإنبياء مع قيد وبيان - إن الله أصطفاك - ، فيكون - إصطفاء – مريم دليلاً على نبوتها ، وقد عزز ذلك المعنى القول التالي من سورة مريم :
قوله تعالى : [ إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ] - مريم 45 ، ففي هذا النص نلتقي مع ذلك الجدل المعرفي الطوعي الذي نجده في صدر البيان ، بقوله - إذ قالت الملائكة - وفي لغة العرب حين يكون الخطاب موجهاً لشخص ما بأسمه وصفته فذلك دليل على الأهمية ، وجملة - يبشرك - جملة خبرية يُفهم منها المُراد في السياق الذي ورد جاء بعد حالة - الإصطفاء - ، وفي هذه الحالة تكون مريم يقيناً من الأنبياء من غير شك ، بل ولها درجة فوق درجات كل نساء العالمين اللائي بلغن شاءاً من القرب في مطلق الزمان والمكان .
كذلك نفهم من السياق أن علاقة مريم بالوحي كانت علاقة مباشرة ، كتلك التي حصل عليها النبي محمد وغيره من سائر الأنبياء ، فالطريق والسبيل إلى ذلك واحد وبه تتحقق نبوة الإنسان ، وذلك السبيل أو الطريق سماها الكتاب المجيد - الوحي - : والذي هو الوسيلة السريعة التي تأتي بالمعلومة من الجهة المرسلة كما تقول لغة العرب ، وأصله : - من وحى أوحى إليه ووحيت إليه ، إذا كلمته عمَّا تخفيه عن غيره - ، وهو في لغة الكتاب المجيد : - يعني تلك الواسطة أو الوسيلة التي من خلالها يمكن إيصال المعلومة من الله لمن أختاره من عباده - ، ومعرفياً لا يمكننا تصور الكيفية ولا الطريقية التي يتم فيها إيصال تلك المعلومة ، لكننا يمكننا تصور المعنى من خلال طبيعة النصوص الحاكية عنه ، [ فيمكننا مثلاً - تصور الوحي على إنه إشارة أو إيماء أو سرعة أو صوت - ] ، وهذا التصور رصدناه في لغة النص وفي لسان الأخبار ، فالوحي بناءاً على تلك الطبيعة أما أن يكون :
1 - كلاماً مباشراً كما في قصة موسى النبي .
2 - أو يكون قولاً بلسان الملائكة كما في قصة مريم العذراء .
3 - أو يكون إلهاماً ورؤيةً ، كما في قصة إبراهيم مع إسماعيل أو قصة أم موسى .
وفي المعجم المفهرس وجدنا إن لفظ - الوحي - وكذا إشتقاقاته لا يبتعد عن هذا المعنى المتقدم ، بدليل :
قوله تعالى : - يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً - الأنعام 112 ، فصيغة ( يوحي ) وردت بالمعنى السلبي للفظ حين يدل على التحريض والنزاع وتأليب البعض على البعض الأخر ، من خلال الدس والتزوير والتشويه والدعاية المضللة ، وهذا جهد الشيطان وجنوده .
وقوله تعالى : - إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل - النساء 163 ، وفي هذا النص وردت الصيغة بالمعنى الإيجابي ، الدال على الإشارة والتنبيه .
وقوله تعالى : - فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا - مريم 11 ، ومعناها هنا دعاهم أو أشار إليهم .
وقوله تعالى : - وأوحى ربك إلى النحل - النحل 68 ، ومعناه هنا أي جعل أو صيَّر لدى النحل إرادة ذاتية تنطلق من فعل ذاتي بايولوجي ، وهذه الإرادة لها علاقة بالطبيعة التكوينية لعموم الحيوانات فيما تأكل وفيما تشرب .
وقوله تعالى : - وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى - القصص 7 ، والمعنى هنا جعلنا في قلب أم موسى السكينة والإطمئنان ، وقد عُرف هذا المعنى بالإلهام الفطري المستند إلى اليقين ، وقد عُرف الإلهام بأنه من ألهم الدال على : [ وقوع اليقين في القلب مما يؤدي إلى الإطمئنان في العمل ] .
وقوله تعالى : - [ يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها ] - الزلزلة 4 و 5 ، والمُراد من لفظ - أوحى - هنا بمعنى الأمر الذي يكون بعد الإخبار .
وأما قوله تعالى : - وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ - الشورى 51 ، فهو يبين لنا درجات و مراتب الوحي التي يمكن تصورها للبشر وهي كالآتي :
1 - الوحي المجرد : ومن مصاديقه - الإلهام - الذي يقع في قلب الإنسان عن معرفة ويقين ، فيطمئن إليه ويعمل بموجبه كالذي حدث لأم موسى - ، ويدخل في بابه الرؤية الصادقة التي حصلت لإبراهيم النبي مع ولده إسماعيل ، أو كالذي حصل لزكريا مع قومه حين أمرهم بالتسبيح بكرة وعشيا .
2 - الوحي من وراء حجاب : ومعنى هذا وتجلياته تظهر بالصيغة التي وقعت مع موسى النبي ، وفيها كان الوحي من وراء حجاب بعيداً عن الرؤية المباشرة لله ، وقد دل على هذا قوله تعالى : - ربي أرني أنظر إليك !! .... فكان الجواب : قال لن تراني !!! ، ولكن أنظر إلى الجبل فإن أستقر مكانه فسوف ترآني .. - الأعراف 143 ، والنفي هنا ورد لتقويم المعنى في قوله تعالى : - وكلم الله موسى تكليما - النساء 164 ، فكان الوحي صوت وكلمات يسمعها موسى في المقدَّسين ، فوق أحساس الكروبيين ، فوق غمائم النور ، فوق تابوت الشهادة ، في عمود النار ، وفي طور سيناء وفي جبل حوريث في الوادي المقدس في البقعة المباركة من جانب الطور الأيمن - مفاتيح الجنان ص 103 - .
3 - وأما الوحي بواسطة الملائكة : فهذا هو المألوف في علاقة الله بأنبياءه ، فالملاك أو الملائكة كانوا هم الواسطة التي تنقل الخبر من الله إلى من أصفاه الله لذلك ، وهذه الصيغة وردت في سياق القول التالي : - أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ - الشورى 51
بعد هذه المقدمة نأتي للتعرف على الطبيعة أو على المهمة التي يقوم بها النبي ، وبعبارة أدق :
هل النبي مفسراً للوحي أو مبلغاً له أو مبشراً به ، أم له مهمة أخرى ؟ ،
يقول الإمام علي عن السر من بعثة الأنبياء ، قال : - إنما يبعثهم للناس ليثيروا فيهم دفائن العقول - .. فثورة العقل أو إثارة العقل هدف مستقل بذاته يقصده الله حين يبعث أنبياءه ، ولهذا ترآه يقول : - أفلايتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها - محمد 24 ، فالتدبر : في لغة النص هو تحريك للعقل كي يلاحظ ويفكر ويستنتج ويجتهد ويحكم ، والتدبر ( هو إعمال للنظر ) سواء أكان ذلك الفعل تجريدي أو توعوي ، وإعمال النظر : هو لفظ دال على الإستنهاض والتحفيز للعقول ، لكي تفهم وتعي الأشياء بطريقة تتناسب مع ما يُصلح الحياة ويَّعمَرُها .
ونعود للقول في الجواب عن السؤال : - من البدهيات اللازم معرفتها هو ( إن عقل النبي عقلاً متطورا بالضرورة قياساً إلى غيره من العقول ) - ، ومادمنا في صدد الكلام عن عقل النبي فأول ما يتبادر منه إنه المفسر لما يأتيه من وحي ، وهذا في - العنوان الأولي - الذي يمكننا فيه وصف النبي ودوره ، إذن [ فهو مفسرٌ لما يوحي به الله إليه ] ، وهذا النبي يكون مبلغاً أو مبشراً أو نذيراً لكن في - العنوان الثانوي - ، وهو في كليهما لا يكون - آمراً أو ناهياً - ، أي لا يصح من النبي أن يقوم بدور ( أفعل أو لا تفعل ) ، وهذا المعنى وجدناه في الكتاب المجيد ، إذ ليس فيه لفظ أو معنى يدل على أن النبي كان - آمراً أو ناهياً - ، لأن هذا الدور هو من مهمات وإختصاصات الرسول بصفته ( حاكماً ) ، ولا يخالف في هذا إلاَّ الجاهل المُقصر ، ذلك الذي يخلط بين النبوة والرسالة ، كما يخلط بين النبي والرسول ، والخلط أساسه التماهي في الدور في ذهن فئة من الناس تتعمد إغراق الواقع بين حاجات النبي ودور الرسول ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على جهل في معنى - المعرفة اليقينية - التي يحصل عليها النبي بالوحي ، والتي يؤمن بها بعد إدراكها ووعيها فتصبح عنده يقيناً مطلقاً .
ومعنى كون النبي مفسراً ، هذه الجملة أو العبارة هي من لوازم نصوص الكتاب المجيد التي توحي بذلك كما في :
قوله تعالى : - ( قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلاَّ نبأتكما نتأويله ) - يوسف 37 - ، فيوسف النبي يقول لمن حوله أنا قادر على أن أشرح لكما وأبين ما تأكلانه ، وهذا المعنى من القول هو ما نسميه ( بالتفسير ) - .
و قوله تعالى : - ( قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم ) - التوبة 94 ، وهذا القول هو ( تفسير للخبر ) ، ومعناها : إن الله قد أخبرنا أو أطلعنا على أخباركم .
و قوله تعالى : - ( قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير ) - التحريم 3 ، في هذا النص هناك مفردتين :
الأولى : وردت في صيغة الإستفهام - أنبأك - ومعناه من أخبرك أو فسر لك .
والثانية : وردت في صيغة - نبأني - والتي تعني الخبر اليقين الصادق ، في كلا الحالين وردتا بمعنى ( التفسير ) .
و قوله تعالى : - ( سأنبك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا ) - الكهف 78 ، ومعنى - سأنبك - أي سأكشف لك أو أظهر لك ، والكشف والإظهار هنا هو بمعنى ( سأفسر لك ) .
و قوله تعالى : - ( قل أونبئكم بخير من ذلكم ) - آل عمران 15 ، والصيغة وردت في خطاب الجمع ومعناها - أدلكم أوأهديكم - وهي كذلك بمعنى ( التفسير ) .
و قوله تعالى : - ( ثم إليَّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ) – لقمان 15 ، والمعنى هنا هو التذكير أو إعادة المشهد والصورة التي كنتم عليها ، وهو أيضاً بمعنى ( التفسير ) .
وفي جميع هذه النصوص هناك معنا مشتركاً واحداً ألاَّ وهو ( التفسير أو التبشير ) ،
قال تعالى : - ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ) – آل عمران 42 ، و لفظ - مبشرين - وردت في سياق النص لتبين لنا طبيعة التطور والتحول الذي حصل للإنسان ، وإنتقاله من حالته البشرية إلى حالته الإنسانية ، و الجذر الثلاثي للفعل بشر صحيح يدل على البشارة ، والتي هي الخبر المفرح السار ، والبشارة والتبشير : من الملازمة اللفظية لحركة النقلة التي حدثت للإنسان ، ومعها كانت حاجة هذا الكائن الجديد للتعرف على الأشياء ، لذلك قال تعالى في الجواب : - وعلم آدم الأسماء كلها ..- البقرة 31 ، ومفهوم عَلَّمَ بهذه الصيغة تعني - التفسير والشرح - ، الذي يتناسب وكل مرحلة من مراحل الإنسان ، ( فالنبوة ) أو ( بعثة الأنبياء ) كانت هي الوسيلة التي تُبشر في تحرير العقل والإنسان من كل ما يعيق حركتهما ، وبهذا المعنى تكون - البشارة - جزءاً من المعنى الفطري للطبيعة الإنسانية ، وبما إنها كذلك فهي تعبر عن - المعرفة اليقينية - التي تتطابق وتتناسب معها .
وهذا المعنى يبحث في الفلسفة بصيغة سؤال يقول : كيف يكون ذلك ؟ ، أي كيف يكون التطابق ممكناً بين المعرفة الفطرية والمعرفة اليقينية ؟
وفي الجواب نقول : [ المعرفة الفطرية هي تلك المعرفة التي يحصل عليها الإنسان ، من النور الذاتي و الذي يعتمد في الأساس على نور الله ] ، وهذه المعرفة عامة من حيث كون جميع الناس يشترك فيها ، لأنها تعتمد على مبادئ مشتركة يؤمن بها و يعتنقها أغلب الناس ، لكن ليس جميع الناس يعتنون بها ، ذلك لأن الكثير من الناس إنما يولعون بالنوادر والعجايب والخوارق والمعجزات ، ويحتقرون أو يزدرون كل هبة فطرية ، وهكذا يكون موقفهم من النبي حين يتحدث عن المعرفة التي يحصل عليها عن يقين ، مع إن الواجب يقول : إن للمعرفة الفطرية الحق الذي يفوق أو يغلب أية معرفة أخرى .
ولتبسيط الفكرة نقول : - إن المعرفة الفطرية هي أثراً من آثار الطبيعة الإلهية ، والطبيعة الإلهية هي أثراً من آثار الأوامر الإلهية - ، ولكن هل تختلف المعرفة الفطرية عن المعرفة الطبيعية ؟ ، نقول : لا تختلف المعرفة الفطرية عن المعرفة الطبيعية إلاَّ في نقطة واحدة ، وهي : - إن ما يحصل من المعرفة الفطرية من معارف وعلوم لا يمكن تفسيرها بقوانين الطبيعية بالمطلق - .
لكن لأصحاب مذهب الإتحاد رأي في هذا فهم يقولون : - إن كل موجود في الطبيعة هو عبارة عن إتحاد بين الموجد المفيض والموجود الممكن - ، وبعبارة أوضح يكون عندهم : - كل موجود في الطبيعة المادية لا يمكنه الوجود أو الإدراك بدون فيض الموجد وإرادته - ، ومن طبيعة الموجد المفيض إن له عدداً لا متناه من الأشياء والأحوال الممكنة الوجود ، و بناءاً على هذا فكل حيز ذهني لا نهائي يدخل في هذا المعنى ، وبناءاً عليه كذلك تكون المعرفة الفطرية من المعرفة الإلهية ، ولكن ليس كل معرفة فطرية هي معرفة يقينية ، فما يحصل لبعض الناس من معارف وعلوم فطرية لا يصح أن نجعل منه بقوة المعرفة اليقينية التي تحصل عن طريق الوحي ، وإذا تبين هذا تسقط دعوى الكثير من الغنوصيين أدعياء المعرفة الفطرية ويسقط من الإعتبار مشاهداتهم وكيفياتهم وحالاتهم الذاتية المُدعاة .
لكن ما الدليل على أن هذا الإنسان مُدعي النبوة قد حصل بالفعل على الوحي من الله ؟ ، ولماذا لا يدخل هذا المُدعي في ساحة أؤلئك الذين يحصلون على العلم بالنور الفطري الذاتي ؟ ، مع تأكيدنا إن ذلك ممكناً وغير ممتنع ، أعني بذلك جواز حصول البعض على هذا النور والعلم من غير وحي ، وهذا القول : ممكن في ذاته لكن إتصافه بالوحي الخاص وحالاته فهذا ممتنع ، أما الإمكان فيكون من وجهين :
الأول : الطبيعة التكوينية ، ونعني بها التكوين والجبلة الخاصة كالغرائز ، يظهر ذلك في قوله تعالى : [ وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتاً ] - النحل 68 ، فالقدر المتيقن من لفظ - أوحى - هو ليس الوحي بمعنى الملاك أو الغمام ، بل بمعنى التكوين والخلقة الطبيعية لهذا الكائن ، وهذا الذي نسميه التقدير في عالم السنن الطبيعية ، كأكل البقر للعشب والحشائش دون اللحوم ، والوحي هنا بمعنى الصنعة والخلق على نحو ما .
الثاني : الحس والخيال والتصور والكلام أحياناً ، كما في قوله تعالى : - [ وأوحينا إلى أم موسى ] القصص 7 ، والوحي هنا لا بمعنى نزول الملائكة بل بمعنى الإلهام والإلقاء في الروع على نحو يفيد اليقين ، وتعريف ذلك : هو حس وشعور ذاتي مفيد للإطمئنان واليقين ، يكون هو نفسه أي الحس والشعور بمثابة الطاقة التي تجعل من تصل إليه واثقاً ومتيقناً ، بأن شيئاً سلبياً لم يحدث ، هذا اليقين متعلق بما تحصل عليه الفطرة من معرفة تكون يقينية عندها ، وبما إننا عرفنا وجوه الوحي وقلنا : - إن واحدة منها هو الوحي ، الذي يكون بشكل إلهام ، لذلك نقول لا مانع من إعتبار ما حدث لأم موسى من فئة الوحي الذي حدث لكثير من الأنبياء ، وهذا المعنى لا ترديد فيه بعدما تبين لنا : - إن النبوة هي معرفة يقينية يحصل عليها الشخص من خلال الوحي - ، وهذا بالضبط ما حدث مع أم موسى .
والثالث : الرؤية االصادقة ، والإبتداء مع قوله تعالى : - [ يا بني أني أرى في المنام إني أذبحك .. ] - الصافات 102 ، وهذه الرؤية هي التصور أو الخيال الذي كان بالقوة ، ولكي يكون واقعاً بالفعل وحقيقة ، قال في مقام الرد : - [ قال أفعل يا أبتي ، ستجدني إنشاء الله من الصابرين .. ] - الصافات 102 ، ولو طبقنا النظرية الواقعية سنجد : إن هذه الرؤية مجرد خيال ووهم ، لا يمكننا العمل بموجبها ، لكن هذا الخيال وهذا الوهم كان هو الحقيقة من وجهة نظر المعرفة الفطرية التي هي معرفة يقينية عند إبراهيم النبي ، ولكن مجرد الخيال والتصور كان بالنسبة لهما واقع وحقيقة ، ولهذا أمتثلا للفعل مصدقين الرؤية على أنها حقيقة لا وهم ، قال تعالى : - [ أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا .. ] – الصافات 103 ، ولكن هل الرؤيا جاءت في سياق نبوة إبراهيم أم كانت سابقة لها ؟ ، بحسب المعطى التاريخي لم تكن الرؤيا سابقة للنبوة ، بل كانت في سياقها أو هي جزءاً من إيحاءاتها .
ونصل هنا لحقيقة الإختلاف بين الوحي والبعث ، وقد مر الكلام عن الوحي وطبيعته وأنواعه ، وأما البعث فقد ورد في لسان العرب بمعنيين :
أحدهما : يعني الإرسال كما في قوله تعالى : - ثم بعثنا من بعدهم موسى - يونس 75 .
وثانيهما : بمعنى الإحياء بعد الموت ، قال تعالى : - ثم بعثناكم من بعد موتكم - البقرة 56 ، فالبعث هو حالة نهوض وإستنهاض ، وهي تأتي بعد حالة الوعي والإدراك ، وفي مسألتنا تأتي بعد الوحي أو الذي جاء به الوحي ، والنبي حين يبعث إنما يقوم بدور المبلغ والشارح لما لديه من حقايق ومعارف ، لكن هذا الدور لا يسحب منه طبيعته البشرية لذلك يقول : - إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي - الكهف 110 ، وأداة الحصر - إنما - تفيد معنى إن له نفس الصفات المخلوقة كما هي لهم ، لكن المميز له عنهم هو بهذا القيد أو قل بهذا التعريف : - يوحى إليَّ – وفي هذا القيد أو التعريف ورد ذكر قوله تعالى : - وما ينطق عن الهوى * إنما هو وحي يوحى - النجم 3 .
وهذا المميز قالت عنه الكلامية بمعنى ( العصمة ) ، والتي هي المنع من الوقوع في الخطأ ، والمنع لا بد أن يكون صفة ذاتية ، عبر عنها الأصولي : بالملكة التي تمنع صاحبها من إرتكاب الخطأ ، وهي بهذا المعنى لا تتعدى بالنسبة للنبي المعنى التشريعي وليس المعنى التكويني ، أي إن النبي يكون معصوماً بذاته ( تشريعاً ) حين يمتنع عن إرتكاب الخطأ ، ثم تأتي العناية الإلهية كما يُفهم من قوله تعالى : - والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا - العنكبوت 69 ، ولا يصح إعتبار قوله - وما ينطق عن الهوى - بمعنى العصمة من الله ، بل المُراد : - إن ما يأتي به النبي من الله لا يخطأ فيه ولا يتعمد ذلك ، بدليل قوله : - إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون - الحجر 9 ، إذن فالنبي معصوم عصمة ذاتية تمنعه من أتيان الخطأ ، وهذه متقدمة على الإصطفاء الذي يأتي لا حقاً ، يعني لا يكون النبي مصطفا من دون هذه الضابطة الذاتية المانعة من إرتكاب المحرم والخطأ .
والنبي لا يوصف بالنبوة إلاَّ بالوحي ، وليس من شرط أن يكون كل نبي مأمور بواجب - الأمر والنهي - ، لأن النبوة ليست قوانين لتنظيم حياة البشر ، بل هي دعوة لفهم الحياة دعوة مجردة ، وحتى تكون تامة لازمها الصدق والمحبة والشمول ، لأنها في الواقع قضية ربانية خالصة في شروطها وفي فعلها وفي أدواتها وأهدافها ، ولأنها كذلك : نقول : - بأن ما يحصل للفلاسفة والعرفاء من علوم ومعارف ، لا تؤهلهم ليكونوا أنبياء - ، لا في مجال التفسير والشرح والبيان ولا حتى في مجال التدبر وإعمال النظر ، فالنبي إنما يكون موظفاً لإثبات الحق الذي ينفع الناس ، عن طريق الحوار والجدل بالحسنى ( البرهان ) ، مستفيداً بالقدر اللازم من كل المراحل التي يمر بها من مراحل تجريبية حسية أوفيزيائية مجردة وأحيانا ميتافيزيقية مثالية ، وتارةً تكون عبر مكاشفات غير مألوفة أو متصورة ، ولكن كل ذلك الفعل ينتهي إلى الوحي الذي هو دليل النبوة الوحيد ، وكل من أدعى النبوة أو يدعيها فلا بد أن يكون له وحياً يتلقى من خلاله الكلمات ، التي كانت بمثابة القول التالي : - وإذ أبتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن .. – البقرة 124 ، أو بصيغة القول التالي : - فتلقى آدم من ربه كلمات فتآب عليه .. – البقرة 37 ، والكلمات جمع كلمة والتي تكون مرةً على نحو مكاشفة صورية وأخرى على نحو مكاشفة معنوية .
والمكاشفة الصورية : ونعني بها هنا ما يحصل عليه النبي في عالم المثال عن طريق الحواس الخمس .
والمكاشفة المعنوية : ونعني بها ما يطلع عليه النبي من معاني الغيب ، وهي التي تجمع بين الصورة والمعنى لذلك تكون أعلى رتبةً وأكثر يقيناً .
وفي هذا السياق جاء قوله تعالى : - فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور – الحج 46 ، وعبارة - لا تعمي الأبصار – إشارة إلى معنى الكشف الصوري الذي يتم عبر أو من خلال الحواس الخمس ، وجملة - تعمي القلوب التي في الصدور - دليل وإشارة رمزية لمعنى الكشف المعنوي ، والجملة الخبرية جملة توضيحية تتحدث عن مقام العقل أو ما يغذي العقل ، إذ الثابت حسب أخر الدراسات : - إن القلب هو من يعمل على تفعيل القلب أو إغلاقه - ، ويكون هو المتعين بذاته بحسب هذا النص دليلاً ، على أنه مكان وعي وإدراك المعاني و الحقيقة من غير واسطة ، قال الملا صدرا في مفاتيح الغيب : - أن قوة الوعي والإدراك الأصلية تفيض من القلب من غير واسطة - ، والفيض الموجب هو الرؤية والوضوح والكشف دون لبس ، وفي غير ذلك يكون العمى والضلال والإنحراف ، والكلمات التي ينزل بها الوحي لا بد ان تتناسب سعةً وحجماً مع من تتنزل عليه ، وبما إن النص إستعار مفهوم القلوب في الكشف والرؤية الصادقة ، فإن ذلك دليلاً على أنه مكان المعرفة الفطرية وساحتها .
وفي جميع الاحوال يمكننا وصف الوحي على إنه حركة وعي في الارادة والقوة ، تجلت لمحمد النبي بصيغة متعددة ، وتجلت لموسى النبي بصوت خارجي ، وتجلت لعيسى النبي بصيغة إتصال الروح بالروح ، وقد عبر عن ذلك بعض العرفاء بالقول : [ فعين النطق منه بعد الولادة هو تجلي لذاته الروحية في كمال ذاته القدسية ] ، وعبر عن ذلك بعض أهل الإتحاد بالقول : [ إن قدرة التجلي بين الوجود والحقيقة واحدة في الأثنين ] ، ومنها يمكننا الإدعاء : - بأن علة النبوة علةٌ غالبة ، كما إن قدرة الله قدرة غالبة - .
وفي هذا الإدعاء حرص منا على القول : - وبما إننا نجهل حدود ذهننا ، لذلك فنحن نجهل العلة الغالبة للنبوة - ، ذلك إن النبي إنما أدرك النبوة بواسطة الخيال الذاتي ، والذي هو الوحي الإلهي ، والنبي حين يفسر هذا الخيال لنا فإنه لا يتحرك في حدود ضيقه ، بل يتعدى ذلك إلى تفسير فكرة الله ومفهوم الله وحدود الله وطبيعة الله ، فهو حينما يبلغنا أن الله : - يدآه مبسوطتان – المائدة 64 ، أو حين يقول لنا إن : - الرحمن على العرش أستوى – طه 5 ، صحيح إنه أستخدم أو أستعار إلفاظاً على نحو مجازي ، لكنه كان يستهدف تقريب الذهن العام لما يتصوره ، عن اليد وعن العرش وعن الكرسي ، وكل ذلك من أجل تقريب الذهن إلى كيفية أستخدام الألفاظ وتطويعها وبما يتناسب ومُراد الوحي ، ونعود للقول : بأن الله حين كلم موسى تكليماً ، إنما كان صوتاً عبر عن روح الله ، الذي لم يكن سراً كما إن النبوة ليست سراً ، بل هي كشف عن الحق المغيب الغير معلوم ، ولذلك كان من مهامها إثبات حقيقة الملائكة وحقيقة الجان التي هي من الغيب أو من الأسرار ، وهذا من أجل أن يتفطن الإنسان لما وراء هذا العالم ، كما يفعل العلم الحديث في جانب حين يستطيع الجمع والتركيب للأشياء الغير مرئية فيجعل منها حقيقة عيانية مشاهدة ..
آية الله الشيخ إياد الركابي
26 ربيع الأول 1440
الحلقة الأولى