الحلقة الخامسة من المدخل
جدل الثبوت والأثبات
في الأستئناس التاريخي الذي قدمناه عن قصة سليمان النبي وملكة سبأ ، وصلنا إلى حقيقة مفادها إن - الجهاد الأبتدائي - لا مانع منه في مقام الثبوت ، أعني لا مانع منه عقلياً وأخلاقياً وقانونياً ،
إذا تم وفق الضوابط التي تحرك ونادى بها سليمان النبي ، وعندما نقول لا مانع في مقام الثبوت فإنما نريد المعنى الفلسفي لهذا المقام موظفاً في الإطار التشريعي ، ومقام الثبوت هو مقام الإمكان الذي لا يلزم فيه الدليل على ثبوته ، أي إن مقام الثبوت هو ظاهرة طبيعية شروطها أفتراضية ..
ولكن مقام - الإثبات - له إعتبارات فهو دائماً بحاجة إلى برهان دال عليه ، فكل قول أو فكر في مقام الإثبات يلزمه دليل دال عليه ، فحينما نقول إن محمد النبي قد مارس - الجهاد الأبتدائي - في حروبه يلزمنا في إثبات ذلك البرهان من السيرة ما يدل على إنه مار الجهاد الأبتدائي في الواقع ، وفقهياً يلزمنا في مقام الإثبات البرهنه على أن الإسلام قد شرع الجهاد الإبتدائي من أجل الدعوة إلى الإسلام أو على الإسلام كما يقول صاحب الجواهر .
قال الشيخ البلاغي في كتابه الرحلة المدرسية ج2ص6 : ( إن الجهاد الإبتدائي في مقام - الثبوت - قد شرع في الإسلام ، ولكن الرسول -ص - لم يمارسه عملياً ، أي إننا في مقام الإثبات لا نستطيع الادعاء أن رسول الله قد مارس - الجهاد الإبتدائي - بل يمكننا إثبات العكس ، أي إثبات أن كل ما قام به النبي في حروبه كا جهاداً دفاعياً ..
قال : وأما حروبه التي تشير إليها في كلامك فإن أساس التاريخ الذي يذكرها يقرنها بذكر أسبابها التي يعلم منها ، أنه لم يكن حرب من حروبه إبتدائياً لمحض دعوة للإسلام .. وإن جاز ذلك للإصلاح الديني والمدني )
والإصلاح الديني : يعني إصلاح الفكر الديني وإصلاح الثقافة والعلم والتربية والسلوك الديني وهو كذلك إصلاح الخطاب والرؤية والأخلاق الدينية وكذلك إصلاح المنطق ونظام التعليم والعقيدة وكل ذلك من اجل تحقيق الكمال والتقدم ..
والإصلاح المدني : يعني إيجاد القواعد المنطقية التي تبني الحياة على أساس العدل والحرية والسلام والتسامح والتعايش السلمي ومحاربة الإرهاب والظلم والتطرف الفكري والسلوكي ونبذ الإستغلال والدكتاتورية وبناء القانون الذي يحمي الناس جميعاً .
ويكون الجهاد الإبتدائي واجب من اجل رفع الظلم وحماية المظلومين ومساعدة الشعوب في التخلص من حكامهم المستبدين ..
وأما النبي فقد فعل ماهو أفضل من خلال دعوته للناس بالحسنى نحو التقدم ونحو المحبة ونحو السلام متبعاً قوله تعالى : ( وادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوه كأنه ولي حميم ) .
يقول محمد رشيد رضا في كتابه الوحي المحمدي ص236-237 : ( إن حروب الرسول للكفار كانت كلها دفاعاً ليس فيها شيء من العدوان .. ثم يقول : إن قتال مشركي العرب ونبذ عهودهم بعد فتح مكة كان جارياً على هذه القاعدة .. ثم يقول : وإنما أشتبه على الغافلين الأمر بما كان في بعض الغزوات والسرايا من بدء المسلمين بها ، ذاهلين عن حالة الحرب بينهم وبين المشركين باعتداء المشركين الأول ، وأستمراره فالدفاع لا يشترط أن يكون في كل معركة وكل حركة ) .
وهذا القول من رضا هو رد على ماذهب إليه الفقهاء بمشروعية إعلان الجهاد على جميع الكفار ابتداءً : أي ولو لم يصدر منهم عدوان على المسلمين - المغني لابن قدامه ج10ص387وكتاب الأم للشافعي ج4ص238 - .
يقول ابن تيميه : كانت سيرته أي النبي أن كل من هادنه من الكفار لم يقاتله ، وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا ، وهذا متواتر من سيرته فهو لم يبدأ أحداً بقتال قط - رسالة القتال لابن تيميه ص123 - .
وقد اختلف في معنى قوله تعالى : ( وان جنحوا للسلم فاجنح لها ) - الأنفال 61 -
قال البلاغي : الصلح عند رسول الله هو القاعدة وهو العنوان الأولي إذا مالوا للصلح والسلام والحياة الطبيعية جنح لها مع عرفانه بأنه المظفر المنصور .
يقول ابن كثير في التفسير ج2ص322-323 : عن ابن عباس ومجاهد وزيد بن اسلم وعطاء وعكرمه والحسن وقتاده ، إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) - التوبه 29 - وفيه نظر إيضاً لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فاما إن كان العدو كثيفاً ، فإنه يجوز مهادنتهم كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي يوم الحديبية فلامنافات ولا نسخ ولا تخصيص والله اعلم ) .
وأما ما قاله صاحب الجواهر في شأن قوله تعالى : ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) وأنها نزلت في الجهاد الإبتدائي فمردود من جهات ..
وقبل التعرف على صحة هذا أم خطئه لابد لنا من شرح وتحليل هذا النص والنصوص التي تليه من سورة البقرة أعني 216و217 والنص الأخير نزل قبل معركة بدر يقيناً وكما هو ظاهر من لحن خطابه هذا أولاً .
وثانياً : يجب التعرف على مدى صحة كلام صاحب الجواهر أم خطئه !!
فقوله : إن آية ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) نزلت في الجهاد الإبتدائي أي إنه جعل سبب النزول مرتبط بالجهاد الإبتدائي وهذا منه ليس على ما ينبغي ، لأن سبب نزول هذه الآية كما في كل التواريخ وكتب الاحاديث له قصة مغايرة لما ذهب إليه صاحب الجواهر ، أي إنها لا ترتبط بموضوعة الجهاد الإبتدائي لا من قريب ولا من بعيد ..
ثم إن هذه الآية جاء بعدها الكلام التالي : ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ّ)
وعندما نسأل عن مراد هذا النص وعن نوعه وعن الواقع الموضوعي الذي تشكل فيه ، وكذلك حين نستذكر كلام البلاغي وقوله في حروب النبي إنها جميعاً كانت دفاعاً محض ، فهل يمكننا بعد ذلك إيجاد صيغة توفيقية بين هذا الكلام وما ذكره صاحب الجواهر ..
ثم هل يمكننا الجمع بين مفهوم قوله تعالى ( كتب عليكم القتال ) وبين مفهوم قوله تعالى ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه )
في البداية يمكننا إيجاد رابط تفسيري بين النصين فلو قلنا إن موضوعة الجهاد الإبتدائي مصداقها غزوات النبي وسراياه ، فالسؤال المتبادر هو : وهل شرع الله الجهاد الإبتدائي لتلك الغزوات والسرايا ؟
الجهاد الإبتدائي لم يمارسه النبي في العنوان الأولي ، بمعنى أدق : ان حياة النبي السلوكية والعملية لم يمارس فيها البتة جهاداً ابتدائياً ، وهذا يعني أن ما قاله البلاغي في هذا المجال صحيح جداً من الناحية الموضوعية والتاريخية وهذا الكلام كله يقع في باب أو مقام الإثبات ..
وأما في مقام الثبوت فالجهاد الإبتدائي جائز عقلاً !!