«إذا كان لايبنز يذهب في نظرية »العوالم الممكنة»، إلى نفي الشر الوجودي، أو بالأصح يذهب إلى استدخاله ضمن بنية الوجود بوصفه شرطا ضروريا لتناغم العالم وتكامله، فإن موقفه الفلسفي هذا سيلقى انتقادات عديدة بدءا من ذاك النقد المغلف في صيغة ملهاة في رواية «كنديد» لفولتير، وحتى متون الفلسفة الوجودية في القرن العشرين ».
كان سؤال الشر ولا يزال من الأسئلة الفلسفية العصية التي انشغل بها الوعي الديني، في سياق مبحث علم الكلام، والوعي الفلسفي، في إطار مبحث الميتافيزيقا. ولا تكاد تجد موقفا كلاميا أو فلسفيا ذا رؤية نسقية لم يخضع هذا السؤال للتفكير. فمنذ الأسئلة الأبيقورية الشهيرة التي نقلها لنا شيشرون كان الوعي الفلسفي ولا يزال يتخذ من فرضية كينونة الشر في الوجود مدخلا لمناقشة الرؤية الدينية، واستفزاز يقينها وخلخلة وثوقها الاعتقادي المطمئن.
وإذا كان لايبنز يذهب في نظرية «العوالم الممكنة»، إلى نفي الشر الوجودي، أو بالأصح يذهب إلى استدخاله ضمن بنية الوجود بوصفه شرطا ضروريا لتناغم العالم وتكامله، فإن موقفه الفلسفي هذا سيلقى انتقادات عديدة بدءا من ذاك النقد المغلف في صيغة ملهاة في رواية «كنديد» لفولتير، وحتى متون الفلسفة الوجودية في القرن العشرين.
لقد أتقنت الوجودية تضمين رؤاها الفلسفية في ثوب فني، متوسلة أجناسا أدبية مؤثرة مثل المسرح والرواية. بل إن شهرتها كفلسفة تدين بها إلى يراعها الأدبي لا إلى لوغوسها الفلسفي.
ويعد ألبير كامو، بجانب سارتر، أهم رموز الفلسفة الوجودية، وأقدرها على الصياغة الفنية الأدبية لمواقفها.
فكيف تتمظهر الرؤية الوجودية للشر في متن كامو؟
إن اختزالنا لمواقف شخوص روايته «الطاعون» هو اختزال لكيفيات تأويل الشر الوجودي: فالأب بانولو يتأول الظاهرة من منطلقه الديني، حيث يرى الطاعون الذي حاق بالمدينة علامة على غضب الله. بينما ينظر كوطار إلى الطاعون بوصفه فرصته، لأنه مصدر ارتزاق وغني سريع، فيحرص على استغلال الكارثة والاستثمار في الألم من أجل تنمية رصيده المالي! أما الصحفي رامبرت فرغم قلقه وتفكيره مرارا في أن يهرب من المدينة المنكوبة المغلقة للحاق بمحبوبته، فإنه في الأخير يعدل عن هذا الهروب؛ لأنه من الخجل أن يكون المرء سعيدا بمفرده! لذا يقرر البقاء رغم الخطر تضامنا مع الجميع، وخضوعا للمصير المشترك! وإذا كان الطبيبان ريو وكاستيل يحرصان على تجريب اللقاحات من أجل ابتداع علاج من المرض، فإن الكنيسة تعقد صلوات جماعية للدعاء برفع الوباء. أما الملحد طارو فقد اقترح على الطبيب ريو تنظيم حملات تبرع بالدم، وعندما سُئِلَ عن الدافع إلى عمله هذا، أجاب لا أدري «أخلاقي ربما»! لكن عندما نستفهمه عن ماهية هذه الأخلاق، فإنه يجيب على نحو أكثر إلغازا: «أخلاق الفهم»!
إن قوة البشرية وضعفها لا يبدوان بوضوح كما يبدوان في لحظات المصير الكبرى! والطاعون كشرط وجودي شامل، يلف المدينة ويخنقها، كان وضعا استثنائيا سمح بتمظهر الموقف البشري على حقيقته عاريا من كل غلاف ساتر. لكن لا أعني بتمظهر الموقف على حقيقته السافرة أنه موقف أحادي، بل حقيقته تكمن في تركيبه وتعقيده، وامتلائه بالنقائض! وهذا الموقف المركب يبدو جليا في شخصية الأب بانولو عندما ينظر إلى موت الطفل بسبب الطاعون؛ حيث نلاحظ أن خطابه اللاحق للحدث، الذي ألقاه داخل الكنيسة، لم يخل من قلق يكشف عن بعض الاختلال في اليقين. لكن هذا الاهتزاز الذي اعتور يقينه لا يعني أنه هزه من أساسه، بل لا، والدليل هو أنه يموت وهو يحتضن رمزه الديني.
إن الوجود بمدلوله في الفلسفة الوجودية؟، بدءا من مؤسسها الأكبر كيركجارد وحتى أونامونو، هو «ألم» وقلق؛ لذا لا عجب أن يذهب اتجاه كامل في الفلسفة الوجودية نحو نزعة تشاؤمية، ترى في معنى العالم لا معناه، أو بتعبير أخف معنى غير مستساغ بطاقة التعقيل البشري!
لذا فكيركجارد يطلب منا أن نتحمل العالم، ونتعلم كيف نقبل ألم وجودنا. وهو بذلك يوافق شوبنهور في نزوعه التشاؤمي، وإن كان يختلف معه في هروبه إلى الفن كمخرج من المأزق الوجودي! غير أن كامو يوجل، خلافا لكيركجارد، في عدمية المعنى! لذا ليس مستغربا أن يتم تصنيفه من قبل بعض المؤرخين، ضمن فلاسفة العبثية لا الوجودية!.