لإحتفال الدولي بنهاية الحرب العالمية الأولى
في باريس يجتمع اليوم عدد من رؤساء الدول والحكومات للتذكير بالمعنى السلبي للحرب العالمية الأولى ، والتذكير بالكيفية التي يجب العمل على أساسها من أجل تفادي الوقوع في مثل هذه الحروب المدمرة ، ومعلوم إن في أوربا هناك صوت إنساني يعلو فوق صوت الدمويين والشعبويين الذين تحركهم مشاعر الخوف والغضب من الأخر ، تلك الأصوات النشاز التي بدأت تعلو في القرن الواحد والعشرين متأثرة ومنفعلة بردات إهتزازية مصدرها العالم الإسلامي الذي تبنى طروحات وأفكار متطرفة تجاه الأخر والحياة .
وأنا لست من الذين يقولون بأن التطرف والإرهاب نشأ وترعرع بفعل و دعم المخابرات والدول الغربية ، حتى لو سمعنا من بعضهم قول ذلك ، ذلك لأن التطرف ليست نزعة تصنع هكذا من غير إيمان بها يحركها ، وهذا الشيء موجود في ذهن وضمير المسلم نجده في أدبياته وخطاباته القديمة والجديدة ، ولهذا فنحن ميالين بدرجة ما للقول بإن مفهوم العنف وعدم التعايش مع الغير ناتج عن عقدة تاريخية تنطلق من إيمان بعدم المساواة وتضخيم لمفهوم الأحقية ، وهذه أشياء تكمن في فكر وثقافة وعقل العربي المسلم ، ويذهب البعض في تحليل هذه الظاهرة على أنها نتيجة لفعل سياسات تاريخية لخلفاء وسلاطين مسلمين فاشلة ، هذه السياسات ولدت في النفس المسلمة عقدة الكراهية للأخر ، والتي تنامت وكبرت مع الأيام حتى صارت بالنحو الذي شاهدناه اليوم في ممارسات وأعمال القاعدة وداعش وأخواتهما .
هذه النزعة العدوانية تنم عن فقدان توازن وسوء تفكير ، يجعل من حامليها أدوات من حيث لا يشعرون بيد الشعبويين وأعداء الحرية والنظام والقانون ، إنه النتيجة المنطقية للفعل وضده ، ولهذا تأتي هذه المناسبة للتأكيد على نبذ الحرب والتسلح بقيم الحياة والحرية والكرامة الإنسانية ، وهذه هي الأشياء التي يجب أن تسود وتنتصر ، وأما الإنعزالية والفئوية والقومية والفاشية فيجب ان تزول وتندثر ، من عالم أصبح فيه كل شيء مفتوح على الأخر ، ونظرياً نحن العرب والمسلمين لازلنا نعيش عقدة القرون الوسطى تجاه الأخر ، ولم تستوف بعد عندنا قوانين المواطنة والتعايش السلمي ، ولازلنا نحلم بسيادة إيديولوجيا التمرد والأنا الذاتي ، والتفرد والحقانية وشعارات من هذا القبيل يخضعها الجاهل لحكمه حتى ما عاد التعايش ممكننا في البلد الواحد ، وتجربة العراق وسوريا وليبيا شواهد على ذلك ، حيث أننا لم نجر بعد عملية نقد ومراجعة ، ولازلنا نجتر فكرة الأحقية المزعومة بأسم الدين ، ولهذا نتصارع من خلالها وحولها على هوامش سياسية ونفوذ ومال سحت ، حتى صارت بلداننا من أكثر البلدان فساداً في كل المجالات والنواحي .
وليس هناك ثمة أمل في التغيير ، أوربا ومن حولها العالم الحر تطمح لتدعيم حياتها ومجتمعها وقوانينها بما يجعلها أكثر أمناً ونظاماً وموائمة للعيش مع الجميع تحت ظل فكرة التسامح وعدم الكيدية ، ولهذا تستوعب المسلمين والعرب مع عدم حاجتها إليهم ، وتهب لهم الحياة الحرة والعطايا والعيش الرغيد ، لم تنظر إليهم من خلال لغتهم ودينهم وقوميتهم بل فتحت المجال للعيش في ظل الإنسانية التي يتساوى فيها الجميع ، ثمة حقوق أعطيت وثمة حماية توزعت ، ولهذا غدت قبلة الجميع ومعشوقة الجماهير يأتوها ظانين بها كل الخير ، والحماية والقانون الذي يفتقد عند أهل الشعارات والأيديولوجيا الخداعة ، إنها مناسبة يمكننا النظر إليها بعين الرعاية والإهتمام في كيفية معالجة قضايانا ؟ ، وكيف يمكننا التعايش مع الأخر من غير أحقية أو دعاوى دينية ومذهبية وقومية زائفة ؟ ، فأوطاننا يمكنها أن تتسع للجميع حين تغلب فيها قيم الحياة والحرية والعدالة والسلام ، وليس تلك قضايا مستحيلة إنما تكون حين يكون الإنسان العربي والمسلم أمن بالشرف والقانون والنظام ، والإيمان يستحضره المسلم حين يؤمن حقا بالقانون ويبتعد عن الشطط وعن الشعارات وعن التزييف وعن الدين السياسي والمرابات ، وحين يؤمن بأن الوطن للجميع وأن الدين لله ، وحينها تزدري في عينه أشياء زائفة ويخمد عنده الوهم والخداع والتضليل و التطبيل والتزمير ، وهذا الكم من الشعارات و الهوى الغلاب ، إنها مناسبة تحاول فيها أوربا ومعها العالم الحر لتجعل من عالمها خال من التوتر والعنف والكراهية ، وفي ذلك المنحى النبيل تكون لنا قدوة وأسوة حيث ننشد جميعاً العيش بكرامة ونظام وقانون ، من غير مفسدين وجهلة وظلاميين وبائعي هوى ومصدري فتنة ورغبات وكبت وتعنيف ، ذكرى المئوية نستحضرها عندنا حيث مررنا بحروب وفتن وتطاحن على أشلاء وبقايا من عفونات الزمن الماضي ، فهل نستجيب لنداء العقل وننتمي لدائرة أهل العلم والمعرفة والعيش من غير مزيفين ومرابين وإنتهازيين ؟!