في مسألة الخطاب السياسي للمنتظمات السلفية الجديدة هناك ثمة أزمة أو قل أزمات ، تُشكل طبيعة الخطاب ونظرته إلى الحياة والواقع ، وهذا ما نقرئه في الأدبيات والنشريات التي تصدر عنهم وحتى في مواقع التواصل الإجتماعي ، ولعل تأريخية الخطاب واحدة من أزماته الكبيرة في مواجهة الواقع والحياة .
إن نهاية عصر السلطنة العثمانية أنتج لنا جيلاً وواقعاً مُعاقاً ومليئاً بالتناقضات والإشكاليات ، وهذا واضح في طبيعة المنتجات السياسية - للحركات السلفية - ، وكذا توالياً في جميع الحركات والأحزاب الإصولية الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط ، وهذه الطبيعة عكست الخلل والرؤية في هوية الخطاب ونوعيته ، وعكست ذلك التناقض الفئوي والطبقي والثقافي والبيئي والسلوكي وحتى الإيديولوجي لديهم ، ومن هنا نجد ذلك الخطاب يعبر عن هذه التناقضات وهذه الإشكاليات في رؤيته للآخر المختلف ، ونجده أكثر تطرفاً في قضايا تمس السلوك والعمل الإجتماعي والثقافي ، فكان الخلط واضحاً بين مخلفات التاريخ ومورثاته وبين الشعارات على مستوى التعبئة والتحريض ، أدى ذلك إلى غياب عامل المنهج الرصين في تعريف الأشياء أو إطلاق الأحكام .
إن المرجعيات والمؤوسسات التي تقف خلف هذا الخطاب ، هي في حقيقتها وليدة صراع سلبي بين قضايا التاريخ وقضايا الواقع ، ولهذا كان كل ما تنتجه وما تقوله عبارة عن ذلك الصراع المُغلف بأواني عصرية ، وهذه السلبية ورثها المسلم من عصر الخلفاء والسلاطين ، كما ورثها من القلق النفسي والتدافع السلبي الذي كان ولا يزال حاكماً في الكلامية السياسية لدى المسلمين .
إن هيمنة تلك العقلية المعبئة تناقضاً وأرباكاً ألغت مفهوم الشورى وحكايتها المتداولة في القرآن ، وكذا ألغت مفهوم العقد الإجتماعي بين المكونات في الوطن الواحد ، وهذا الذي أدخل الفرد المسلم المنتظم بحزب والغير منتظم في صراع جبري ، وهذه معضلة كبيرة نجدها في لغة الخطاب نظراً للتداخل الحاد بين تاريخية المفاهيم وثقافتها ، وهذا كله أثر ويؤثر في حركة الناس اليومية وعلاقتهم ببعضهم البعض الآخر .
ومن الطبيعي ونحن نتكلم عن هذا الخطاب ، أن نقول : إن غياب المؤوسسات الديمقراطية ، وغياب إنتاج الوعي الحر أو المجتع الحر ، ساهم في جعل الخطاب السلفي الديني عبارة عن نوع من التنظير الميتافيزيقي اللامنطقي ، والذي تستحوذ عليه النظرة الإستئصالية والمصادرة لكل فكر مُغاير ومختلف ، وهذه النظرة التسويقية للخطاب في مقابل الغير خلقت تلك الأزمة والإضطراب في العقل والضمير العام ، وهذا كان نتيجة لإهمال متعمد أدى إلى إلغاء دور المجتمع ومساهمته في تحقيق طموحاته المشروعة .
إن طبيعة الأحزاب الإسلامية وثقافتها تعمل على تكبيل العقل بمجموعة مقولات تدور في حيزي الممنوع والمحرم ، ولا مجال فيها للحريات التي هي أساس النشأة الأولى للبشرية ، وهذا التكبيل نلتقيه في النظرية ونلتقيه في العمل ، ولا ندعي شيئاً غير معلوم فالشعارات التي يرفعها ويرددها المنتظم الإسلاموي ، هي دائماً خارجة عن إطار رقابة العقل ورقابة العلم ، بل وتتجاوز على روح القانون وما ينفع الناس ويجذر فيهم حب الولاء للوطن ، وهنا نقول : إنها شعارات كانت ولازالت عبارة عن ردات فعل وإنغماس في كل ما يثير ويزعج الغير ، في قوميته وثقافته ولغته وحتى في الجغرافيا التي يعيش فيها ، ذلك لأنها شعارات أحادية الجانب تعتمد المخاتلة والتضليل والكذب وتشويه السمعة ، حتى صارت الخديعة فن سياسي ! ، والكذب وقاية وحماية ! ، والنفاق مصلحة وإقتضاء وضرورة ! ، وتشويه سمعة الأخرين والإضرار بهم دفاع وتحصين !!! .
إن الخطاب تاريخياً يعتمد الإقصاء ، إقصاء للجهد وللعمل وللإنتاج وإقصاء للشخصية ، وذلك عبر جملة إجراءات وتُهم وتحريض وإستفزاز ، وهو عملياً يساهم في خلط الأوراق والمفاهيم التي تواجه المجتمع ، مما أدى إلى أن يعزل نفسه عن الواقع ويتكأ على قراءات أهل التراث والماضي ، وهذا الذي زاد في نسبة التباعد بينه وبين الأخرين ، ولسد العجز في ذلك ومواجهته قسّمَ العالم إلى – مؤمنين وكفار - ، وأعلن الحرب على الكفار معتمداً شعارات متطرفي القرون الوسطى - فالكفر عندهم ملة واحدة - ، وهذا الذي جعله معزولاً منبوذاً يتراجع في مواقعه الضبابية والخلفية ، ولدى محاورته فإنه يعتمد على جيل من الحجج الخاوية ومن التبرير البعيد عن الواقع والطبيعة الإجتماعية والثقافية وحتى السياسية .
إن خطاب المنتظمات السلفية تفتقد للرؤية الموضوعية التي تواجه عالم اليوم ، فهي تتبنى نظرية الحزب الواحد والخليفة الواحد ، وترفض فكرة التعددية الوطنية والتعددية الثقافية ، مما ساهم في سيادت النزعة الدكتاتورية في أوساطهم ، تلك النزعة التي تبرر كل شيء وتفلسف كل شيء لمصلحتها وتحقيق واحديتها ، فبرروا الإرهاب تحت بند – ترهبون به عدو الله وعدوكم - ، وبرروا قتل المُخالف والمعارض تحت معنى – أقتلوهم حيث ثقفتموهم - ، ومن هنا إعتبروا كل من خالفهم الرأي – مباح لهم ماله وعرضه ودمه - ، ولتقريب الصورة للمشاهد نقول هذه هي ثقافة السلفية ، وهي ثقافة كل الجماعات التقليدية الموازية لها في العراق ومصر والشام ، ولم تكن القاعدة ولا داعش بدعاً من هذه الثقافة وهذا الموروث المنغمس في إعماق تاريخ المسلمين ! .
إن خطاب الإسلامويين كما قلنا ذو نزعة إستئصالية للمخالف ، فالشيعة عندهم روافض يجب قتلهم من غير إستتابة ، والمسيحيين كفار والإيزديين كفار يجب قتلهم وسبي نسائهم ، هذه العدوانية في خطابهم السياسي تجعلنا نؤكد ، على إن فكرة القمع الذي يلاحق كل مفكر وكل كاتب وكل صاحب رأي هي واحدة من أخلاقياتهم ، نرى ذلك في العراق والشام وفي مصر يقومون بشكل دوري في إقصاء للمفكرين وللصحفيين وللكتاب ، ويكون ذلك عندما يعجزون في مواجهة الفكر النقدي الحر القائم على الدليل والبرهان والحجة والدامغة ، ولهذا تخلو المنتظمات الإسلاموية السلفية من الكفاءات العلمية والفكرية ، وعندهم أنصاف متعلمين فقط وجهلة ومروجين لمقولة – إبقاء ماكان على ما كان - ، مما أدى إلى بروز القاعدة كبديل وداعش كواقع يحكي عن عظمة الإسلام في أحلى صوره وأبهاها المتمثل فيها ، إن فقدان المعايير الواقعية لديهم أدى ليكون خطابهم مرهوناً بيد حفنة من المتحجرين والجهلة والمتطرفين .
إن الجدل الذي يثيره الإعلام الإسلاموي السلفي حول قضايا الإنسان والحرية في المجال الفني والفكري والإعلامي ، يشكل الواقع في تركيبتهم وبنيتهم ، إن أعضاء المنتظم الإسلاموي السلفي عبارة عن أنصاف متعلمين وجهلة ، تقودهم أفكار مسطحة في التربية الإجتماعية وفي الإعداد الثقافي وفي محاكات الواقع ، ولهذا يعتمدون العنف والإرهاب في التعبير عن أرائهم كتفجير القنابل والمفخخات والإنتحاريين وإغتيال الشخصيات الفكرية والعلمية العاملة ، وفي ذلك يعتمدون على تضليل المُضللين بمقولات عن الكفر وعن الشرك وعن الروافض وعن الصليبية والصهيونية وغيرها من المقولات ، وإعداد جملة خطابات وجوابات بعيدة عن سياقها الموضوعي ، من التلفيق والجز والبتر والتقطيع ثم التوليف على نحو مغاير ومختلف وغير دقيق ، والهدف صنع منتمي فاقد للقيم لكنه مطواع ينفذ ما يطلب منه من دون نقاش ، وهذا المنتمي المغرر به دائماً هو الخط الأول الذي يُضحى به ، من أجل طبقة إنتفاعية مهيمنة فاسدة ، وهذا يعني إن المنتمي دائماً ورقة محترقة تخضع للأجواء والمصلحة ، ودائماً يكون المنتمي لهم من ذوي السوابق الجنائية والماضي السيء ، ولا يختلف الأمر في الهيكل القيادي فهم جماعة مليئة بالعقد والفساد الأخلاقي والنفسي ، وأكثر ما تعتمد على بقايا من النظام السابق ممن تلوثت وتلطخت أيديهم بدماء الأبرياء ، وهم مشغولين ، في تكديس الثروات وبيع النفط المهرب والمتجارة بكل ممنوع ، و تعميم الخرافة والمتاجرة بالدين وتصنيف الناس بحسب الولاء المناطقي .
إن الخطاب الديني للسلفية الجديدة هو خطاب تحريفي مشوه إسقاطي يعتمد الجز والبتر والتلفيق والكذب والدجل والنفاق ، وإنه غائر في ماضويته الصحراوية البعيدة عن المنطق والواقع ، إنه خطاب بدائي يستنسخ خيوط الفتنة من عصور الظلام ليحاكي فيها المهزومين والفاشلين ، غالقاً أمامهم كل نوافذ المعرفة والعلم ، ولهذا لن يكون بمقدوره الدوام في ظل عالم يتطور ويتقدم بإستمرار ..
مركز الدراسات والبحوث في
الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي
بغداد
30 - 05 - 20 16