في مقال سابق كنا قد تحدثنا عن العلاقة التلازمية بين الليبرالية والإسلام ، وقد قلنا هناك : ان لاتضاد ولاتناقض بينهما ، بل إن الإسلام في جوهره يدعوا لليبرالية ويحث على التمسك بها وبخيارتها لصنع إنسان حر مسؤول وواعي ومدرك لخياراته ومساراته في الحياة ، وكلامنا هذا كان ولازال عن الإسلام بإعتباره دين الله للإنسان كما نعتقد وكما نظن في فكرتنا عن وحدة الدين ووحدة الإنسان ، فالدين كما نفهمه هو دعوة للعدل وللحرية وللسلام ، وهذه القواعد هي منظومة القيم الليبرالية كما هي مقررة ومعلومة في المواثيق وفي المدونات .
فتحرير العقل من المواقف المسبقه على الأشخاص أو على الجماعات ركيزة وقاعدة أساسية في الفكر الليبرالي وفي الفلسفة الليبرالية ، فالعقل الحر الغير منحاز والغير مؤدلج يساهم في خلق سلوك إجتماعي يخدم الإنسان من حيث هو من دون النظر لإعتقاداته وأفكاره ، أي إنها تخدم الإنسان من حيث هو ، وهذه الرؤية المنفتحة تبناها الأنبياء في سلوكهم تجاه الجميع من الموالين ومن المعارضين ، وكان همهم حسبما قرئت تحرير عقل الإنسان من الوقوف عند الإنتماءات الضيقة ، الآبائية أو القبلية أو الحزبية ، والإنفتاح على الجميع من دون النظر في سجلاتهم وماضيهم إلاّ إذا كانوا مجرمين بالفعل وليس على الظن أو التهمه ، وقد جاء هذا التوجيه في مناشدة الأنبياء للتابعين لهم أو المؤمنين بفكرهم ، من خلال تحريم متابعة الغير أو تتبع أثره في سبيل الإيقاع به ، كما جاء النهي عنهم بعدم السعي في البحث عن درجات التدين عند كل واحد منهم ، وإعتبار ذلك شأن خاص أو خيار من الخيارات الفردية الشديدة الخصوصية - فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر - ، وهم في هذا التوجيه يحاولون جر التابعين لكي يكونوا طبيعين في علاقاتهم مع الغير وفي الموقف منهم ، وهذا إشعار بعدم الحكم على الغير أو إتهام الغير في سلوكه أو في ملبسه أو في مشربه لأنه فقط مختلف عنه ، فالحرية الفردية في السلوك وفي التعامل لا ضابط لها سوى القانون العام الذي يجري ويطبق على الجميع من غير تفاوت ، والحرية الفردية عامة ومطلقة وغير مقيدة ، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الله وكيف يجب ان تكون هذه العلاقة ؟ .
ومن هنا إعتبرت الليبرالية الحرية الفردية هي الركن الأساسي الذي يؤسس عليه وتُبنى عليه كل الأسس اللازمة للحياة ، والقانون العام حسب المبادئ الليبرالية العامة إنما يؤسس بناء عليها ، فالحرية الفردية أو حرية الفرد هي ليست الفوضى أو عدم الإلتزام ، إنما هي عنوان لمجمل الحقوق المدونة والغير مدونة التي تهب للفرد القدرة على تحديد خياراته من دون كوابح أوقيود غير واقعية حادة من النشاط ومن الحركة ، كما يجب التنبيه إلى إن الحرية في هذا المعنى ليست كما يشاع عنها بالكفر أو الإلحاد فهذا القول سياسي إعلامي بإمتياز ، لأننا نعلم إن شرط الإيمان هو الحرية ومن دونها لايصح إيمان المؤمن فإيمان المكره باطل كما هو معلوم . ،
وعلى هذا يجب التأكيد من جديد إن : الليبرالية التي هي بمعنى الحرية والتي ندعوا لها ونبشر بها ، هي ليست دينا من فئة الأديان المتداولة ، إنما هي منظومة قيم وهي منهاج للسلوك والعمل الحياتي العام ، ولا تتدخل في قضايا العقيدة والشريعة الدينية المحضة ، وهذا الإقرار هو ما قاله بالضبط - الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي - في ميثاقه العام وفي مناسبات متعددة ، فالتعارض المزعوم والذي يروج له بين - الليبرالية والدين - إنما هو تعارض مختلق قام به و يقوم بالترويج له رجال دين ورجال سياسة معروفي الدوافع والأهداف .
وفي هذه المناسبة لا يفوتني التذكير بما تعرض ويتعرض له الفكر الليبرالي من حملات تشويه مقصود في المنتديات القريبة من التكفيرين والظلاميين ، ومن موجة حوارات مبتورة لا تنتمي لفئة الحوارات المحترمة كما في بعض شاشات التلفزة المأجورة ، وأنا على يقين بان ذلك كله نابع منهم من خوف من تمدد الفكر الليبرالي بشكل ملحوظ في أوساط الشباب العربي والمسلم في المنطقة العربية وفي الشرق الاوسط ، لأن الفكر الليبرالي لديه مشروع متكامل للحياة ونظرة متوازنة للكون ، لهذا فهو القادر على المنافسة الحقيقية بعد هذا الإنفتاح الإعلامي وثورة المعلومات الباهرة .
كما إن الفكر الديني العتيق أثبت فشله وتداعيه في ساحات عمله في إيران وأفغانستان وباكستان ، وفشل في لبنان بعد الإنتخابات الأخيرة وفشل مشروعه في العراق كما هو ظاهر وجلي ، فالأحزاب الدينية العراقية يممت وجهها بعيداً وهذا شيء حسن ، لأنها شعرت ان قطاعات وفئات الشعب المختلفة قد رفضتها ، لكونها تحولت إلى زمر تلهث وراء المناصب من دون النظر إلى القيم الأخلاقية ، وفي هذا المجال أيضاً تتقدم الليبرالية ككونها مذهب أخلاقي وإنساني نبيل ، لأنها تعتمد الصدق و الشفافية وتحارب الكذب والسرقة والغموض ، وتحث على إحترام القانون والنظام العام ، وتعمل جاهدة لتصنع مجتمعاً خالياً من الرشوة ومن المحسوبية ومن الفئوية ، وفي هذا المجال تدعوا للعمل على تحقيق القدر اللازم من العيش الكريم لكل فرد من افراد المجتمع من دون تمييز بين الرجال والنساء ولا بين الأقاليم والمحافظات لا في المناصب ولا في كل شؤون الحياة ، الليبرالية هي فكر الأنبياء في الدعوة وفي المنهاج وفي العمل ، إنها فكر الرب للحياة ...