الحلقة الرابعة من - المدخل - تتبعنا حركة الجهاد في خط سير النبي سليمان ولم نجد فيه ما يدل على إنه مارس أو فعل جهاداً ابتدائياً ، وكل الذي شاهدناه عبارة عن حركة دفاع تستهدف حماية الإنسان وحماية حريته ووجوده وكيانه الموضوعي من غير تعد أو إكراه ..
حتى إن سيرورة الدعوة إلى الله أتخذت هذا اللون من الجهاد أعني الدفاعي ، وهي على مستوى الحركة والمنهج تبنت المفهوم الرسولي القائل : ( وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) - سبأ 124 - أي إنها تبنت نظرية الجدل بالحسنى ، وهي نظرية تحقق قدراً كافياً من الخير العام ومن السعادة ومن الفضيلة وهي اشراط المصلحة الإنسانية العليا ، وفي ذلك لم تنفصل حركة سليمان النبي عن هذا المنهج وتلك الجدلية التي هي في الواقع تعزيز لقيم الحرية الواردة في معنى ( لا إكراه في الدين ) - البقرة 256 - والإسلام كما هو يرفض القتال من أجل إدخال الناس إليه بحد السيف ، ويرفض في الوقت نفسه مبدأ إحتلال أراضي الغير بالقوة ، وهذا الرفض نابع من حرص الإسلام على حماية الحرية الشخصية في العبادة وفي الملكية . * قال الشيخ الطوسي في كتابه النهاية ص293 : - ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان ، وفي أي شهر كان إلاّ الأشهر الحرم - !! أقول : وهل إن مشروعية القتال متعلقة بالحرمة أم باحترام هذه الأشهر أم بهما معاً ؟ القتال كان محرماً في الأشهر الحرم عند العرب قبل إن يبعث محمد - ص - ، والأشهر الحرم هي : رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم - ومن هنا أفتى الطوسي بجواز القتال في أي شهر من السنة غير الأشهر الحرم . والمتعلق بالقتال هو من يبدأ القتال ، والقائلون بحرمة القتال في هذه الأشهر فلا يجوز قتالهم أبتداءً فيها ، أي لا يجوز قتال المشركين القائلين بحرمة هذه الأشهر وحرمة القتال فيهن ، ولكن الحرمة معلقة أو مرتبطة بعدم قتالهم في هذا الأشهر فإن بدؤوا هم بقتال المسلمين جاز للمسلمين قتالهم فيها ، طبعاً المراد بالقتال الجائز هنا هو - القتال الدفاعي - ليس إلاّ .. وقال الطوسي : - وإن لم يبتدئوا بالقتال أمسك عنهم إلى إنقضاء هذه الأشهر ، وأما غيرهم من سائر أصناف الكفار فإنهم يبتدؤون فيها بالقتال على كل حال - . يريد الطوسي القول بأن من لم يحترم هذه الأشهر فقتاله فيهن جائز شرعاً ، فالمناط في الجواز وعدمه عنده هو إحترام هذه الأشهر !! ومن أجل تأكيد صحة الجهاد الأبتدائي قال الطوسي في كتابه الجمل والعقود ص154 مايلي : - فإذا اختل واحد من هذه الشرائط سقط فرضه - أي سقط فرض الجهاد الأبتدائي ذلك لأن الجهاد الدفاعي لا يسقط وجوبه على نحو وبأي وقت كان ، ولأن الجهاد الدفاعي لا يقبل السقوط أصلاً ، فالدفاع لا يتحدد وجوبه بالزمان وبالمكان ، وهذا القول مجمع عليه وهو حكم العقل بكل تاكيد .. إذن فالذي سقط فرضه هو الجهاد الأبتدائي .. قال ابن زهرة في الغنية : - وأعلم أنه ينبغي تأخير لقاء العدو إلى أن تزول الشمس ويصلى الصلاتان ( الظهر والعصر ) وهذا هو الجهاد الأبتدائي ، لأن الجهاد الدفاعي لا يجوز تأخيره على أي نحو ، لأن الدفاع رد للبلاء .. - قال ابن زهرة : - وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار والإجتهاد في الدعاء إلى الحق ، وإن يمسك بعد ذلك كله حتى يبدأ بها العدو لتحقق الحجة ويتقلد بذلك البغي - قال ابن حمزة في الجوامع الفقهية ص 695 : - ولا يجوز الجهاد بغير الإمام ، ولا مع ا~مة الجور - أقول : والجهاد الذي لا يجوز بغير الامام ولا مع ائمة الجور هو الجهاد الأبتدائي ، لأن الجهاد الدفاعي واجب سواء أكان الأمام موجوداً أو غائباً وسواء أكان الامام عادلاً أم ظالماً ، كالدفاع عن حرمة الاوطان والاعراض والانفس .. قال صاحب الجواهر ص ج21ص4 : - لا ريب ان الأصلي منه قتال الكفار ابتداءً على الإسلام ، وهو الذي نزلت فيه ( أي الجهاد ابتدائي ) الآية 216 من سورة البقرة [ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم ..] أقول : الكراهية في سياق النص لا بد ان تكون بحسب الطبع الأولي للإنسان الذي يرغب بالسعادة والسلام والأمن ويكره القتال والنزاع والعدوان ، وتحمل الصعاب بالنسبة للإنسان مشكلة حقيقية ، لكن ذلك يهون حين يرتبط بهدف نبيل وغاية سامية .. يتبين من خلال مقولات الفقهاء المتقدمة صحة الجهاد الأبتدائي ووجوبه ، ولكي نناقش هذه الصحة من وجهة نظر فقهية يلزمنا مايلي : 1 - معرفة ما إذا كان النبي قد مارس الجهاد الأبتدائي في حياته التي عاشها في المدينة أم لا ؟ مع كثرة الحروب التي خاضها . 2 - ومعرفة ما إذا كان الجهاد الأبتدائي قد شرع في الإسلام أم لا ؟ .