طرح الإمام المنتظري ولاية الفقيه المنتخبة من قبل الأمة، وهذا يتم إما بمرحلة واحدة، مثل أن يُخْتَار الرئيس مباشرة من الأمة، أو بمرحلتين كأن يُخْتَار الرئيس من مجلس ينتخب من الأمة، فالإمام المنتظري كغيره من الفقهاء لايرى إطلاق دلالة الروايات الواردة في شأن الفقيه، لكن يستشكل عند الشيخ المنتظري الفرق بين الثبوت الوصفي والفعليّ، فالإمام الخميني وغيره ممن يقول بولاية الفقيه لا يدعي الثبوت الفعليّ بل غاية ما تفيد الروايات هو الثبوت الوصفيّ، أي أن الشرع عيّن الصفات اللازمة للمتصدي للحكم، بناء على هذا، فمناقشة الشيخ المنتظري تلك الروايات من منظور دلالتها في الثبوت الفعلي هي بعيدة عن مورد الخلاف، وهو: هل للفقيه ولاية عامة بعد حصوله التعيين الفعليّ أم لا؟.
ويمكن تقسيم ولاية الفقيه عند الشيخ المنتظري إلى ما قبل الانتخاب أو بعد الانتخاب، فالولاية قبل الانتخاب عنده تقتصر في أمور الحسبة[1]، أما بعد الانتخاب فهي تشمل دائرة الشؤون السياسية والدينية، إلا أنها تقتصر على الإشراف، فهو يرى أن النظام السياسي نظام مبني على المؤسسات، حيث أن «الحاكم بمنزلة رأس المخروط يحيط بجميعها ويشرف على الجميع إشرافا تاما»[2]،كما يتدخل في الأمور العامة الاجتماعية التي لابد منها للجميع بما هو مجتمع، لكنها تأخذ إطار الإشراف[3].
وعلى هذا الأساس، فصلاحيات الفقيه عند الشيخ المنتظريّ محدد، انطلاقا من مبدأ :عدم ثبوت ولاية أحد على أحد، ومفاده «أن أفراد الناس بحسب الطبع خلقوا أحرارا مستقلين، وهم بحسب الخلقة والفطرة مسلطون على أنفسهم، وعلى ما اكتسبوه من أموالهم بإعمال الفكر وصرف القوى»[4].
بيد أن هذه القاعدة غير مسلمة، حيث اعترض عليها الشيخ عبد المنعم مهنّا، فبيّن أن العكس هو الصحيح «فالأصل هو ولاية بعض الناس على بعض بعد أن كانت الولاية الكبرى لله تعالى بحكم خالقيته وملكه للعالم فهو مالك الجميع أفرادا ودولا»[5].
كما يضعف تلك النظرية مشابهتها لنظرية الليبرالية المبنية على أصالة الفرد وهي نظرية لا تتفق مع مقاصد الشريعة؛ إذ الفرد مقيد بحدود الشرع، فلا يتصرف في نفسه وفي ماله كيف يشاء، علاوة على ذلك، فقد ذكر الشيخ أحمد النراقي- بعد أن حدد الولاية المتفق عليها، وهي ولاية النبي صلى الله عليه وسلم، والأئمة- أن الأولياء كثيرون وهم: الفقهاء العدول والأباء والأجداد والأوصياء والأزواج والموالي والوكلاء، لكن ولاية هؤلاء مقصورة على أمر خاص[6].
يلاحظ من رؤية الشيخ المنتظري على أن سلطة الفقيه في عصر الغيبة، تكتسب بالشورى من حيث أصل انعقادها وكيفية اجرائها[7]، وبالتالي فسلطة الفقيه تخضع لمفهوم الشورى من حيث الانتخاب والصلاحيّات، وذلك لتغير حاجات الزمان والظروف والإمكانيات، أما كيفية الشورى وخصائصه فمفوض إلى أهل العلم والعقلاء، وذلك لتطور الشورى حسب متطلبات العصر[8]، ومن هذا المنطلق، فإن سلطة الفقيه في منظور الشيخ المنتظري مقيدة بأمرين:
الأول: تقييد سلطة الفقيه بالانتخاب، حيث أن الفقيه يختار من قبل الأمة، ويفضل المنتظري أن يتم الاختيار بمرحلتين: أولا: اختيار الأمة مجلس الخبراء، ومن ثم يختار مجلس الخبراء الفقيه، والثاني: تحديد وظيفة الفقيه[9]، حيث تقتصر وظيفته عنده بالإشراف على الحكومة[10]، وهي تأخذ على شكل هيئة تحافظ على الدستور، ويحدد الشيخ محمد حسين النائيني مهمتها في حفظ السلطة الإسلامية وصيانتها من الانحراف ومراقبتها لئلا تتجاوز الحدود المرسومة لها، وابقائها داخل النطاق الطبيعي لها[11].
ولهذا، يؤكد المنتظري أن« ولاية الفقيه لا تعني أن يكون الفقيه على رأس الحكومة وأن يحكم عملياً، بل أن دور الفقيه في الدولة الإسلامية، أي الدولة التي يقبل شعبها بالإسلام كأيديولوجية ويلتزم به، أشبه بدور المفكر منه بدور الحاكم، هذا، فضلاً عن أن الناس هم الذين ينتخبون الفقيه، وأن وظيفة الفقيه كمفكر هي الإشراف على التنفيذ الصحيح والسليم للاستراتيجية المتبناة، والإشراف على رئيس الحكومة الذي ينفذ السياسة الإسلامية»[12].
كما يعطي المنتظري الشعب حق الإشراف على التزام الحكام بالدستور والقانون، وفي حال المخالفة، أو الخروج عن الإطار الإسلامي، يعطي المنتظري الناس حق المعارضة سعياً لعزل الحاكم، لكنه يوجب التدرج في عمليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بحيث يقطع الطريق على عمليات الخروج بالقوة واستخدام وسائل العنف[13].
وينبغي أن نشير إلى أن الشيخ المنتظري قرر تقييد ولاية الفقيه، وذلك بعد ما التمسها من الاستبداد والدكتاتورية، يقول في إحدي المقابلات:«إنني اقترحت ادخال المادة القانونية، يقصد المادة التي تخص صلاحيات الولي الفقيه التي جرى تثبيتها للدستور الإيراني عام ( 1979م)، وهي من صنيعتي، لكني أرفضها اليوم؛ لأن الولي الفقيه، حسبما كنت أريد، اليوم لا يعدو كونه مراقبا، ينظر إلى الأمور ويقدم النصائح إلى السلطات القانونية، ولكن ما نراه اليوم هو قيام دكتاتورية أكثر استبدادا من النظام السابق، باسم الدين ومذهب أهل البيت تحت مظلة ولاية الفقيه التي جمعت تحتها عناصر فاسدة ومنحرفة ومنافقة، لا دين لها ولا إيمان، لا بثورة ولا بأخلاق»[14].
وتتجسد رؤيته في ولاية الفقيه المنتخبة في عدة مبادئ أهمها: احترام الحقوق العامة، خصوصًا حق المشاركة الشرعية الفاعلة، والالتزام بالدستور، وتحديد صلاحيات الفقيه في إطار القانون، وكذا تحديد فترة ولايته، ومساءلته أمام مجلس الخبراء المنتخب من قبل الشعب[15].
هذا، ويرجع نقد الشيخ المنتظري على ولاية الفقيه في مفهومها المطلق إلى عدة عوامل:
الأول: عدم اتضاح معالم أبعاد الحكومة الدينية عند المتصدين بها؛ لأن فقهاء الشيعة بسبب تعرضهم للإنزواء السياسي طيلة القرون المتتالية، ما استطاعوا أن يحصلوا على فرصة لتبيين أبعاد الحكومة الدينية المتناسبة مع الزمن، وكذلك صلاحيات الحاكم ووظائفه، وحقوق الشعب، وكانت: "الجمهورية الإسلامية" أول تجربة للحكومة الدينية بواسطة فقهاء الشيعة.
الثاني: كان الدستور أول تجربة كتب بواسطة الخبراء، لكنه كُتب دون تجربة، وبالطبع كان يحمل نقائص وتناقضات، ومنها أن المسؤوليات نوعاً ما، هي على عاتق رئيس الجمهورية والسلطة التفيذية، ولكن أسس القوة والسلطة هي بيد القائد من دون أن يكون مسؤولاً ومجيباً، وبناءً على هذا، يبقى الكثير من الأمور الأساسية والمهمة راكدة ولا يوجد من يجيب عليها.
الثالث: المسؤولون والمتصدون للأمور بعد أن وصلوا للسلطة ابتلوا بنوع من التحزب وانحصار السلطة، وبالتالي تم حذف الكثير من القوى النافعة والفعالة في البلد، كما تم نسيان صفوة واخلاص الماضي، وبدل استقرار نظام العدل والقسط، استقر نظام الخواص وغير الخواص، ودخل الأبرياء في السجون.
الرابع: أن نظرية ولاية الفقيه بصورة مجملة وبمعناها الصحيح والمعقول، تعتبر من المسائل الأساسية في الفقه الإسلامي، ويقر العقل والكتاب والسنة على صحتها، ولكن بعض التعريفات المغالية، وخاصة إضافة قيد «المطلقة»، وعدم الالتفات إلى سائر أصول الدستور ومنها الأصول المرتبطة بحقوق الشعب، قد أدت إلى ظهور التناقض والعراقيل في إدارة البلد، وتبعاً لذلك أدى الأمر إلى بعض الخسائر والأضرار[16].
د. بدر الدين شيخ رشيد إبراهيم
......................................
[1] - المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة، المركز العالمي، للدراسات الإسلامية، قم، إيران، ط1/1408 ھ،ج2/ ص416 .
[2] - المصدر السابق، ج2/ص25.
[3] - المنتظري، نظام الحكم في الإسلام، تحقيق، لجنة الأبحاث الإسلامية، قم، إيران، ط1/138ش، ص223.
[4] - المصدر السابق، ج1/ص27.
[5] - الشيخ عبد المنعم المهنا، الدولة الإسلامية بحث في ولاية الفقيه،(بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص32.
[6] - أحمد النراقي، عوائد الأيام، تحقيق، مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية التابع لمكتب الإعلام الأسلا مي، قم، إيران، ط1/ 1417ھ، ص529.
[7] - المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة، المركز العالمي، للدراسات الإسلامية، قم، إيران، ط1/1408ھ ،ج2/ص489.
[8] - المصدر السابق، ج1/ص549.
[9] - المصدرالسابق،ج1/ص561.
[10] - المصدر السابق، ج2/ص57.
[11] - محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنزيه الملة،(بدون تاريخ الطبع والناشر)، ص19.
[12] - محسن كديفر، تسع نظريات لولاية الفقيه ترصد مسيرة الفكر السياسي الشيعي، عرض، ميرزا الخويلدي،(تاريخ النشر 21-9-2013م)، أنظر الرابط: http://www.rasid.com/?act=artc&id=20851
[13] - المصدر السابق، أنظر الرابط: https://www.rasid.com/?act=artc&id=20851
[14] - فاخر جاسم ، تطور الفكر السياسي، لدى الشيعة الإثنى عشرية في عصر الغيبة، أطروحة دكتوره في العلوم السياسية في الأكاديمية العربية المفتوحة في الدنماك، إشراف د. عقيل الناصري، (2008)، ص155.
[15] - حسين صوفي محمد، مخترات إيرانية ، شخصيات شيعية آية الله منتظري: ( العدد، 66، يناير، 2006م)، أنظر الرابط: http://albainah.net/index.aspx?function=Printable&id=10015&lang
[16] - صوت أمريكيا، شبكة النبأ المعلوماتية، حوار مع الشيخ المنتظري بعد 28 عاما، من انتصار الثورة الإسلامية في إيران،( تاريخ النشر،12-2-2007م)، أنظر الرابط: http://www.annabaa.org/nbanews/61/252.htm