موقف الكتاب المجيد من قصية (ملك اليمين)
3
ولا نجد في الكتاب المجيد ولا دليلاً واحداً يدل على إستعباد الناس وسلب كرامتهم أو إرغامهم على فعل ما لا يرغبون به ، ولم يدع الكتاب المجيد للمعاملة بالمثل فتلك عنده صفة مذمومة قال تعالى : - [ ولا تزر وازرة وزر أخرى ] - التحريم 10 ، ولهذا فما يُقال في التاريخ عن ظاهرة الإماء اللائي يقعن ضمن الغنائم الحربية ويوزعن على المقاتلة ، فشيءٌ ممنوع ذلك لأنه يتعارض وصريح الكتاب المانع لهذا النوع من الممارسة ، وحتى حينما يتحدث الكتاب المجيد عن مفهوم الرقيق في صيغة ( تحرير رقبة ) ، هو لا يتحدث عنها بصفتها وبوصفها غنائم حربية وقعت بيد المنتصرين ، بل بوصفها ظاهرة تاريخية كانت سائدة قبل عصر نبوة محمد ، فهو إذن يحث ويشجع على تحرير الإنسان من سلطة الأستعباد ، ولهذا ورد في المأثور وبصيغة الإستنكار المفهومي ( متى أستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ) .
وهذا يعني إن هناك مرحلتين من التاريخ ما قبل عصر النبوة وما بعد عصر النبوة المحمدية ، فما كان سائداً قبل ذلك العصر ورد التشجيع والحث والدفع عليه في الكتاب المجيد بتحرير تلك الرقاب التي أستعبدت .
وأما ما بعد عصر النبوة فلم يسمح النص ولم يجز بحال سلب كرامة الإنسان أو إجباره على فعل ضد طبيعتة وضد آدميته ، وأما ما يُقال في التاريخ والروايات والأخبار عن الإماء وأمهات الأولاد فلا نقره ولا نعتقد بصحته ، ومعلوم إن التاريخ والأخبار ليست بالمحل الذي يمكن الركون إليهما في تصويب أو تشريع القوانين والأحكام ( مع ملاحظة إن جميع الحروب التي قام بها الخلفاء والسلاطين ، كانت عبارة عن غزو منهي عنه ) !! .
ومن هنا نقول : - إن الدخول بالمرأة من غير رضاها لا يجوز شرعاً ، ومن يفعله يكون قد أرتكب الأثم ، ذلك إن العلاقة بين الذكر والأنثى لا تتم إلاَّ بالتراضي والقبول - ، ولا تصح بالإستغلال أو بوضع اليد فهذا ممنوع شرعاً وعقلاً - ..
ونقول كذلك : - إن المسموح به من فعل ( ملك اليمين ) هو ما يقع مع النساء المؤمنات وليس مع الكافرات أو المشركات - ، هذا بحسب ما يقوله الكتاب المجيد ، إذ ورد ما يلي نصه قال تعالى : - [ - وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلًا أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ ، فَمِن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ۚ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم ۚ ، بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۚ ، فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ، مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ ... ] - النساء 25 .
أولاً : المحصنات هو جمع محصنة ، وهي من الحصن بكسر الحاء ، وهي لفظة دالة على المنع أو الإمتناع بمعنى الحماية والحصانة والصيانة ، والمرأة المحصنة هي المرأة الممتنعة حين تقع بضائقة مادية وإقتصادية وإجتماعية لا تستسلم لها ، بل تحصن نفسها من إرتكاب الخطيئة أو الإنزلاق فيها رغم المغريات ، وهذا الفعل هو قابلية وقدرة على الإمتناع لدى بعض النساء ، ولا يدفعهن عسر الحال والعوز والحاجة إلى الإنزلاق أو إرتكاب الخطيئة ، ومن أجل هذا جاءت الإباحة لحفظ وصيانة المرأة التي تتعرض لمثل هذا الظلم ، من خلال توفير العيش الكريم والحماية والحصانة والصيانة لها ، وشرط الحصانة متعلق رتبةً بشرط الإيمان ، قال ( من فتياتكم المؤمنات ) ، وهذا يدفع القول الرائج : - بأنهن نساء من الكفار سبايا - .
وثانياً : أشترط النص أن يكون النكاح الذي يقع مع ملك اليمين ، أن يتم بأذن أهل هذه المرأة المؤمنة ، ويبين هذا إن فعل النكاح هو ليس بوضع اليد أو التملك ، وإنما بالتراضي والقبول ، والأصل فيه حصانة المرأة من الوقوع في الخطأ أو الخطيئة .
وثالثاً : الحصانة في واقعها الدلالي والمفهومي هو ما يتضمن هذا المعنى وتوابعه المعنوية والمادية ، قال تعالى ( وآتوهن أجورهن بالمعروف ... محصنات غير مسافحات ) .
ملاحظة :
بعد الحديث عن معنى الزوج في اللغة والكتاب المجيد ، يلزمنا بيان في ماذا تعنيه كلمة - بعل - ، والبعل في لغة العرب هو المعيل أو الكفيل ( وهو هنا معنا عام ) ، وفي الكتاب المجيد يأتي بمعنى المدير أو من بيده إدارة شؤون الأسرة ، وقد ورد التأكيد على ذلك كما جاء في الأثر قوله عليه السلام : - [ إن جهاد المرأة حُسن التبعل ] ، وفي ذلك إشارة لما تقوم به المرأة في حال غياب زوجها عنها وعن البيت ، وفي هذه الحالة تكون هي المديرة والراعية لشؤون الأسرة والبيت ، فتوفر لهم ما يحتاجون إليه من معاش وأمن وإستقرار .
ويُفهم من هذا إن البعل لا يكون المقصود منه خصوص ما يقوم به الزوج في فراش الزوجية ، بل يعني الرعاية والإشراف والحماية في كل ما يتعلق بشؤون وحاجات الأسرة ، وفي هذا المعنى يتساوى الرجل بالمرأة والذكر بالأنثى ، طالما كان المُراد من ذلك هو هذا ، وإلى ذلك وردت جملة نصوص ومنها :
قوله تعالى : - [ أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين ] - الصافات 125 ، والجملة فيها إستفهام إنكاري ، لأولئك الذين يتركون أحسن الخالقين ويلتجؤن إلى ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام ، في تلبية حاجاتهم المعاشية وسد عوز أسرهم وما تعاني منه .
وقال تعالى : - [ وإن إمرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً ... ] - النساء 128 ، والكلام على من بيده الإدارة في مرحلة وقوع الخلاف بين الذكر والأنثى ، قال إن المسؤول عن إعادة العلاقة إلى مجرآها الطبيعي هو البعل بصفته مديراً ، فهو القادر على فتح باب الصلح وسد ثغرة الخلاف التي قد يأتي منها الطلاق وغيره .
وقال تعالى : - [ .. وهذا بعلي شيخاً .. ] - هود 72 ، والكلام عن زوج إبراهيم عندما بشرتهم الملائكة بالولد ، وهنا أستخدمت اللفظ كناية عن الزوج وعن الإمكانية في صناعة الولد ، بإعتباره المسؤول أو هو صاحب النطفة التي تتم بها هذه العملية ، لذلك أستدركت بالقول وهذا بعلي شيخا ، كناية و حكاية عن الضعف وعدم القدرة .
وقال تعالى : - [ .. ولا يبدين زينتهن إلاَّ لبعولتهن .. أو آباء بعولتهن .. أو أبناء بعولتهن .. ] - النور 31 ، والنص إنما يتحدث عن الأفراد الذين يُسمح لهم برؤية المرأة في زينتها الداخلية ، تلك الزينة الممنوعة على الأخرين ، ويجب التنبيه : إن الكتاب المجيد حين يستخدم اللفظ في معنى ما ، إنما يأتي به للتعريف ولتقريب الذهن ، فحين يقول - زوجاً فهو يقصد معناه المتعارف مع حرصه الضمني ان يقوم هذا الزوج بواجباته من النكاح والإدارة - .
آية الله الشيخ إياد الركابي
27 جمادي الأولى 1440 هجرية