االكلام عن الواقعية السياسية يجب النظر إليه من وحي ماهو ممكن أو ما يجب أن يكون ، والربط بين الواقعية السياسية وبين سياسات ترامب يعتبر الكلام فيه الكثير من المجازفة والتحدي لدى كثيرين ، لكننا نجد إن بين الواقعية السياسية وبين سياسات ترامب الحالية إن هناك ثمة ترابط وهمزة وصل ، وكلامنا هذا نقصد به مجموعة السلوكيات والافعال والممارسات التي نرآها خاصةً في ظل الإضطراب وعدم الدقة والتفاوت الحاصل في عالم اليوم ، والواقعية المقصودة هي في ذلك التناسب بين القول والفعل ، وفي موضوعتنا يتمحور الربط في ذلك الشيء المنسي في عالم السياسة ألاّ وهو - الصراحة والمواجهة والمكاشفة وعدم المخاتلة - ،
، وهذه الموضوعة نجدها
أكثر وضوحاً مع ترامب وفي ما يمارسه ، والصراحة في العمل السياسي لدى كثيرين ليس شيئاً محموداً ، وهي عند كثيرين تعتبر قلة خبرة و نقص في الوعي وفي التفكير . وكنا نتحاشى الكلام عن الرئيس ترامب وعن سياساته ما أستطعنا إلى ذلك سبيلا ، ولكن جرئة الرجل وصراحته التي أظهرهما على الصعيدين المحلي والدولي ، دفعتنا للكلام عن سياساته لما وجدناه من تفاوت وخلاف مع سابقيه من الرؤساء ، فهو يحاول فعل المطلوب من غير تزييف ولا أوهام ولا وعود كاذبة أو كلام من غير تطبيق ، وكلنا يعلم كيف كانت حال السياسة الأمريكية السابقة ؟ وكيف كانت تعمل و تُدار ؟ وماهي شروطها وأشراطها ؟ ، إذ كان الغموض يلف الكثير منها ، وكانت الشعوب والدول تتوه فيما هو المطلوب والمراد منها وما ينبغي فعله وعمله ، لكن هذا الرئيس غير المعادلة فأصبحنا نقرأ السياسة عندهم بشكل واضح ، ومن أجل بيان أكثر نعرض اليكم بعضاً من المواقف التي تبدل الحال فيها والنظرة إليها من قبل ومن بعد :
( الموقف الأول : - من الصراع العربي الإسرائيلي - ) : - كان الصراع في السابق يلفه الكثير من الغموض والميوعة ، ولم نكد نفهم معنى السلام الذي كانوا يتحدثون عنه ، وذلك منذ الإعلان الرسمي لقيام الدولة الإسرائيلية ، ولم يكن السلام المحكي عنه في هذا الشأن حقيقياً و لا يناسب تطلعات جميع الأطراف ، وحتى العرب في ذلك الوقت لم يكونوا جادين في مطالبهم عن فلسطين ، ولا في تحديد ماذا يريدون بالضبط ؟ ، حدث هذا منذ أربعينيات القرن الماضي وما تلاه ، وحدث ذلك حتى في زمن إنتشار القومية العربية - وشعاراتها وهتافاتها الطنانة - ، ولم يكن العربي آنئذاك يعرف ماذا يريد وماذا يراد منه ؟ ، وهل هناك حلا سياسيا ممكنا للقضية الفلسطينية أم لا ؟ ، وحروب العرب كانت في المجمل عبثية و فاشلة وعقيمة ، وكانت في مجملها جزءاً من مشروع سادت فيها التعميه والتسويف و تشويه الصورة في ذهن الإنسان العربي البسيط ، وقد عمد حزب البعث بشقيه على تضييع الفرص وخلق التوتر من غير جدوى وهكذا فعل عبدالناصر ، وقد كلف ذلك العرب الكثير من الدماء والكثير من التضحيات ، فتعطلت عندهم حركة التقدم الإجتماعي والإقتصادي ، و زادت لديهم مناسيب التخلف والجهل و الأمراض والأمية والفقر والتفاوت الطبقي ، وفي ظل ذلك دخل العرب بصراعات محلية ونزاعات مذهبية وطائفية كثيرة ، حدث هذا في العراق وسوريا ومصر ولبنان ، وكان العرب شهودا على تآمر بعض حكامهم وإنجرارهم وراء هذا الزيف المخادع ، والعالم بشطريه الشرقي والغربي لم يكن ليجرؤ على فعل شيء مهم لهم في هذا الشأن ، وبقي الحل مجرد أوهام و تسكين ومعالجات وقتيه رضت بها جميع الأطراف وأقتنعت ، و أستُهلك الشعب الفلسطيني بكل شعارات الدنيا وتقطعت أوصاله ، حتى وصل به الحال ليكون اليوم جزءاً من المشروع التكفيري مبتعداً كثيراً عن دوره الوطني ونضاله المشروع .
إلى أن جاء ترامب وأعلن عن موقفه ورؤيته للحل ، كيف يجب أن يكون ومتى ولماذا ؟ ، هذا الموقف تردد في فهمه الكثير وخاف منه كثيرون ، ومن الطبيعي إن كل شيء في بدايته يكون غريباً أو غير مألوفا ، ذلك لأن الناس في طبيعتها تحب الإستصحاب ، وتحب التمديد في كل شيء والرضى في الشعارات والنوم على الكذب ، أما الحسم وتطبيق الإلتزامات فشيئا جديدا ، وأول هذا الجديد هو عملية نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس بالفعل وبالقوة ، وفي ذلك يكون ترامب قد دشن لمرحلة جديدة في الإعلان النهائي والرسمي عن العاصمة الأبدية لإسرائيل ، وعلى ذلك تتفق جميع القوى العالمية أو هي متفقة ، ولكن بدرجات متفاوتة وحسب التوقيتات المعينة والمصالح الخاصة و الحاجات التي تُطلب هنا وتُطلب هناك .
وقد أيقن العرب إن حل هذا الصراع يحتاج إلى رجل حاسم غير متردد ، كما تحتاج القضية إلى رؤية واضحة محددة غير مماطلة ، فتقدمت دول عربية بمشاريع لتعلن صراحة إنها مع هذا الحل ، وإنها بصدد تقديم ما يجب فعله في هذا المجال لكي يستقيم العمل وتتجه للبناء والإعمار والأمن ، وقد ساهم الإعلام العربي مشكوراً بقسط وافر في التهئية لهذا الأمر ، كما ساهم جيل من المفكرين والكتاب في ذلك ، والحل المنشود جاء بصيغة أطلق عليها تجوزاً أسم - صفقة القرن - ، والصفقة في أصلها هي عقد يدل على الإشتراك على فاعليه في التنفيذ ، وهدفها قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح و بحدود جديدة وبعاصمة جديدة ، و قد تكون سيناء أو بعض منها جزءا من هذه الدولة المستقبلية .
طبعاً الرهان في ذلك على الجميع والإلتزام بها من قبل الجميع ، ومقدمة ذلك يكون في حل قضية الصراع المسلح في سوريا حسب توافقات يكون للرئيس الأسد الدور الأكبر فيه ، و تحجيم دور إيران في المنطقة وتحجيم دور حزب الله ، وهذا الفعل ستقوم به سوريا وحسب توقيتات معينة .
وهذا الحل بحسب الواقع هو الممكن في ظل الكثير من الضعف والهوان والإنقسام وفقدان العزيمة وفقدان المشروع ، وسيكون هذا الممكن قابلاً للنجاح ، رغم ما نسمع من ممانعة وتغنج هنا ورفض هناك ، لكن في الحقيقة الجميع متفق مع هذا الحل ، وسنشهد في سنة 2019 التطبيق الفعلي لهذا الحل ، وإذا لم يكن ذلك كذلك فسيكون هناك دمار وضياع لدول وشعوب أخرى في المنطقة .
وأما ( الموقف من البرنامج النووي الإيراني ) : - فذو طابع سياسي إعلامي بأميتاز ، يُظهر إيران وكأن لديها مشروعاً في هذا المجال أو شيئا مشابها ، وإيران الدولة والحكومة تعي ذلك ، وتعرف ما يجب عليها فعله وعمله ، وإن عليها حقوقا وواجبات يجب الإيفاء بها :
أ - منها نزع حالة التوتر الطائفي والمذهبي في المنطقة .
ب - القضاء على التنظيمات والمليشيات التي تعمل لحسابها .
ج - التقليل من إندفاعها بإتجاه الدول العربية والخليجية أو السعي وراء تحقيق مصالح أكبر من حجمها الطبيعي .
د - تخفيض حدة الخطاب الذي قد تستغله بعض التنظيمات والجماعات في خلق التوتر و تأليب الرأي العام .
ه - وعليها أن تعرف حجمها و إمكانياتها الذاتية ولا تتعداها ، فهي لن تستطيع الصمود أو المقاومة على المدى البعيد .
خاصة في ظل طلبات شتى يعيشها الشعب الإيراني في الداخل ، وأهمها رفع اليد من العراق وسوريا وإيران ولبنان واليمن .
و - وهي مطالبة بأن تفي بتعهداتها للمجتمع الدولي .
وما البرنامج النووي إلاَّ بوابة يمكن التسلل إليها من خلاله ، وقد ضيعت إيران الكثير من الفرص ولم تستغل فترة أوباما على النحو المثالي ، ونعني بذلك إنها لم تتقدم بخطوات ملموسة لقيام علاقات مباشرة وبناءه مع إمريكا ، بل بقيت تراوح في ظل شعارات فارغة أفقدتها الكثير من مصداقيتها .
إذن على إيران أن تتخلص من دور اللعب بالخفاء ، هذا الدور الذي يظهرها وكأنها دولة مقاومة أو إن لديها مشروعا تحرريا حقيقيا ، وهي تجيد اللعب في ذلك الدور الذي يظهر أشياء في العلن ويخفي أشياء لتستدر فيها العطف وتضليل العوام ، وما قضية – إيران غيت ببعيد - ، هي كذلك تحب اللعب هكذا .
في عهد ترامب ولى ذلك الزمن وذلك الخطاب ، وعلى الجميع اللعب على المكشوف والصراحة ، ولنا في النموذج الكوري الشمالي خير دليل ، فعندما أعلنت كوريا الشمالية العصيان لفترة كان الرد قاسيا وكان سيكون مدويا ولكنها أستدركت وعرفت حجمها فغيرت سلوكها وخطابها ، وهكذا رضى عنها ورضت عنها الأمم حتى أقرب حلفائها أعني الصين لم تكن إلا وفق ما يريد ترامب ويطلب .
وقد تحدث ترامب عن العراق في أكثر من مناسبة ، تحدث عن الحاضر وعن المستقبل ، وتحدث عن حكامه وتوعدهم بأنه سيطبق عليهم القانون حسب المسطرة والمقاسات الدولية ، وكلامنا هذا أنطلقنا فيه من فيديو رأيته للرئيس ترامب ، وهو يُقيم الحالة في العراق ، وصادف ان تكون أحدى اليافطات الإعلانية لرئيس الوزراء مكتوب علىيها - العراق يتقدم - ، وصادف أيضاً إن هذه اللوحة مرفوعة بالبصرة ، وصادف إن هذه اللوحة وجدت في مكان محاط بكل مارأت العين من الزبالة و الوساخة والقذارة ، يقول ترامب كيف للعراق أن يتقدم مع وجود هذه الكارثة ؟ ، فالتقدم يكون عند شعوب الأرض هو في العناية بالإنسان وما يحيط به من بيئة ومكونات ، وتذكرنا من غير قصد أو قياس ذلك القول المأثور – إياكم وخضراء الدمن - ، فكيف لنا أن نتقدم ونحن مثقلين بكل أوزارنا وقذارتنا وأوساخنا ولا مبالاتنا ؟ كيف لنا أن نتقدم ونبني البيوت الفارهة في واقع سيء وقذر ؟ ، تذكرنا أننا في العراق نكون دائماً في الأسوء من بين الدول وفي كل المقاسات والموازين ، وعرفنا كم نحن بعيدين عن هذا العالم وعن هذه الواقعية التي تحدثنا عنها ، فتخلفنا يشمل كل المناحي التعليمية والصحية والخدمية والإنمائية .
الحزب الليبرالي الديمقراطي العراقي
مركز البحوث والدراسات