العراقيون مفتونون بلبنان. كان بدر شاكر السياب يأتي الينا بهيكله العظمي المنهك والمحطم، ليجلس وراء الزجاج في مقهى الهورس شو في الحمراء ويقول «... وانا في آخر زيارتي للدنيا ارى في هذا الرصيف كل الدنيا».
قال لنا في حديث صحافي «حتى عظامي تعشق الهواء هنا». لكنه كان يصرّ على ان يدفن في المكان الذي ولد فيه «لن تعثر في اي ارض على من يفهم عذابي سوى ذلك التراب المعذب».
لم تكن له علاقة بالسياسة «لان رأسي بالكاد يوجد على كتفي». لا يريد له ان يسقط «في بلادنا لا تعرف ما اذا كان الحاكم مصابا بعقدة جلجامش، ام بعقدة حمورابي، ام بعقدة نبوخذ نصر، ام بعقدة هارون الرشيد ام بعقدة هولاكو».
وقال «حتى الحسين مات في العراق. الم اقل لك ان التراب معذب ويليق بالمعذبين؟».
ولطالما قيل ان العراقيين يحبون لبنان لانهم يكرهون سوريا. لا يزال الامويون هناك والعباسيون هناك. حين وصل الامير العباسي عبد الله بن علي الى دمشق، على ما يذكر ابن الاثير في كتابه «الكامل» «امر بنبش قبور بني اميّة، فنبش قبر معاوية بن ابي سفيان فلم يجدوا فيه الا خيطا مثل الهباء، ونبش قبر يزيد بن معاوية فوجدوا فيه حطاما كأنه الرماد، ونبش قبر عبد الملك فوجدوا جمجمته. واما هشام بن عبد الملك فإنه وجد صحيحا، ولم ينل منه الا ارنبة انفه، فضربه بالسياط وصلبه وحرقه وذراه في الريح».
وحين تسلم حزب البعث السلطة في بغداد ودمشق انهارت الايديولوجيا وقام التاريخ من المقبرة. دمشق هي بكين وبغداد هي موسكو. الجغرافيا هي التي لعبت بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية، فكانت هنا شيوعية نيكيتا خروتشوف وكانت هناك شيوعية ماو تسي تونغ..
لماذا العراق مرهق للجميع؟ صدام حسين اراد ان يصنع قنبلة نووية لاستعمالها في وجه القنبلة الايديولوجية التي في يد ايران. وبعدما دمر الاسرائيليون مجمع تموز في 7 حزيران 1981، وكان غارقا في الحرب ضد آية الله خميني، لم يدفع بدباباته الى فلسطين، كما كان يعد، بل الى الكويت...
الان، العراق مرهق لاهل العراق بل وللجميع. نعلم ان ونستون تشرشل هو من وحّد الولايات الثلاث (البصرة وبغداد والموصل). من يوحد العراق الان؟ اذا قامت الدولة الشيعية يأكل الشيعة الشيعة، واذا قامت الدولة السنيّة يأكل السنّة والسنة.
ليس العراقيون وحدهم ذئاب العراقيين. العرب كلهم ذئاب العرب. الانكليزي توماس هوبز قال قولته الشهيرة «الجميع ذئاب الجميع» لكي يستخدمها رجال السوسيولوجيا ذات يوم في وصفهم للعرب...
صديق عراقي ويسأل «لماذا تغوينا كوريا الشمالية ولا تغوينا كوريا الجنوبية؟». في رأيه اننا عشاق لـ«ديكتاتورية الموت» لا لـ«ديكتاتورية الحياة».
يضيف ضاحكا «لا شك ان الاسرائيليين نادمون لما فعلته حكومة مناحيم بيغن. لو صنع صدام القنبلة النووية لالقاها على طهران وانتهى الامر. الان، ثمة بين العرب من يفاوض اسرائيل، على شراء القنبلة النووية فقط لاستخدامها ضد آيات الله».
العراق الذي كان يمكن ان يكون يابان الشرق الاوسط تمزقه الذئاب اربا اربا. ذئاب الداخل وذئاب الخارج. حيدر العبادي يأمر بمنع رئيس مجلس النواب سليم الجبوري من السفر لتورطه في الفساد...
الساسة في العراق مفتونون ايضا بالساسة في لبنان. عندنا فلاسفة الفساد، ومثلما نصدّر التفاح و البرتقال، ومثلما نصدّر هيفاء وهبي ومايا دياب، نصدّر احدث النظريات في الفساد...
لكن لبنان بمساحته، وامكاناته، بالكاد يكون دولة (مزرعة؟ اجل. كازينو؟ اجل. رصيف؟ اجل).
امبراطور الصين قال للرحالة القرشي بعد ثورة الزنج «ان الملوك خمسة اوسعهم ملكا الذي يملك العراق لانه في وسط الدنيا، والملوك محدقة به».
مقارنة بين لبنان والعراق. بلدان يمزقهما الداخل والخارج. يقول ديفيد هيرست «اذا ماتا مات الشرق الاوسط».
الا يزال الشرق الاوسط على قيد الحياة؟!