التعددية الفكرية في المذهب الليبرالي

 

 

 

تبنى الليبراليون التعددية كخيار وكرؤية للتعايش في المجالات كافة ، وهذا التبني أخذ عندهم شكل العقيدة والإيمان ، ولهذا كتبوا ذلك في مواثيقهم العامة وثقافتهم الخاصة وأعتبروا التعددية شرط في فهم الأخر والعلاقة معه .

هذه الجدلية المعرفية عززتها التجربة والممارسة في الدول الغربية التي أنتعشت فيها الأفكار الليبرالية منذ بداية الثورة الفرنسية وما تلاها إلى عصر النهضة وإلى يومنا هذا ، فالتعايش السلمي وإحترام رغبات وتوجهات الأخر قضية هامة ومركزية ، ومنها أنبثقت كافة المواثيق التي تعنى بالإنسان وحقوقه ، وعليها إيضاً قامة شرعة الأمم وإعلانها الشهير .

والفكر الليبرالي الحديث يحمل كل مورثات وجينات التعددية كسلوك إجتماعي راقي ، دون على أساسه كل متبنياته الخاصة ببناء الدولة الحديثة ، جاعلاً من التعددية بمفهومها الإيجابي الطريق نحو بناء الدولة القطرية الموحدة ، معتبراً التعددية عنده تؤمة للوحدة في معناها الوطني .

مؤمن بالبعد الأخلاقي الذي يجعل من التعدد طريق للتطور عبر بوابة التنافس الإيجابي وتقديم كل ما يقدم المجتمع وينهض به ، ولهذا عَّده منظريَّ الفكر الليبرالي الحديث الركيزة الأولى في قضية الخلاص من الاستلاب الفكري والثقافي والسياسي ، أي ان التعدد طريق لبناء الذات والتعرف على أوجه النشاط لكل طرف وكذا التعرف على قدراته التنموية .

فالتعدد الفكري كما هو مقرر في الفلسفة الليبرالية الجديدة هو طريق للاصلاح وطريق للتصحيح في إلغاء مبدأ الأنا الذاتي التي هي نتاج للفكر القومي العنصري أو للديني الراديكالي المتطرف، ومبدأ الأنا الذاتي هو نظرية تعمل بها كل الأنظمة الدكتاتورية التي تباعد في الوطن الواحد وفي القطر الواحد بين تلاقح الثقافات المحلية واللسانية .

 

فعندما يقرر المذهب الليبرالي قضية التعددية كأطار للتعايش يطرح الأمر من وجهة عملية خالصة ، ويوظف ذلك في إطار مشروعه لبناء المجتمع الجديد الذي يوازن فيه بين الاختلاف كطبيعة فسيولوجية وكطبيعة واقعية ، وهذا التوازن ياخذ شكل البناء الواقعي ذاته فلا يلغي أو يكره أو يعتبر نفسه الحق ودونه الخطأ .

إذن فهو يتحرك وفق الحاجة والطبيعة ويجعل من الكل ميدان لنجاح توجهاته وطروحاته ولهذا يعتبر الليبرالي نفسه قائم بالفعل على حماية حقوق الانسان وإشاعة روح المجتمع المدني ، الذي يلغي الفوارق التي تصنعها السياسة والأوضاع الاجتماعية ذات الصلة بالرؤية التاريخية دينية كانت أم قومية أم عصبوية .

 

ولا أظن ان مذهباً تاريخياً تبنى التعددية في الواقع غير المذهب الليبرالي ، وهذا مردَّه إلى

 

 

 

 

 

طبيعة القائمين عليه ، والفرق عند الليبرالي بين النظرية والتطبيق يكاد يكون معدوماً ، على عكس غيره من المذاهب التي عادة ما تتبنى ذلك على نحو نظري محض ، ولكن التطبيق يكون مغاير له تماماً .

يعكس هذا مدى الحاجة إلى ان تتعرف المجتمعات الشرقية على نمط وسير سلوك الليبرالي وتقييم حركته ضمن ظوابط متبنياته كما يعلنها وكما يدعيها ، خاصة وان المجتمعات الشرقية ومنها العراق مارست إشكال من التوجهات السياسية والاجتماعية قُبيل تشكيل الدولة القطرية الحديثة وبعدها ، وكانت ظواهر الولاء للتكوينات البدائية قبيلية وعشائرية تتحكم بقسط وافر من بنائه الاجتماعي ، وهذا ما جعل مخلفات الجاهلية كقانون العشائر ساري المفعول حتى اللحظة ، مع ما حصل من تطور إجتماعي في ما حول العراق من دول وبلدان .

 

الليبرالية كعقيدة إجتماعية إلغت من مواثقها وخطاباتها عنصر رد الاختلاف ، بل إنها دعت إليه معتبرة ذلك عنصر ديمومة الحركة وهذا يعني ان نظام الليبرالية في كل أبعاده يؤمن بالاختلاف كواقع لتعزيز المنظومة الاجتماعية ، وحذرت الليبرالية من دفع الناس للإيمان بشكل واحد ومعتقد واحد وبرؤية واحدة للحياة يتم على أساسها تفسير كل الظواهر ، معتبرة ذلك معيق للوعي ومعيق للتفكير فيما يصح وفيما لا يصح ، وهنا تبدو الليبرالية وكأنها تدمج بين قضايا الشعور وقضايا المسؤولية في وحدة فكرية على ضوئها يتم تقيم ردات الفعل والنشاط وصحة المتبنيات إيضاً .

لذلك تعتبر الليبرالية نفسها معنية في هذا الوقت بالذات في المشاركة الفعلية بصناعة المجتمع الجديد ، والتعرف على مناهج الغير وتقييمها ومحاولة فك وتحليل بروز ونشاط الراديكالية في طروحاتها عن الحياة . وهذا يعني حتمية الحوار في مجالات العمل الاجتماعي والسياسي والخروج بمشروع وحدوي يهم المواطن والوطن  .

 

ان عدم الأتكاء على التفسير التاريخي في بناء المجتمع الجديد يعُدها الليبرالي الخطوة الأولى لكتابة الدستور ، أي إن الخروج من قلق الماضي وضغوطاته النفسية وأحقياته المزعومة هو الذي يحرر المشرع من تبني الفكر الذي ينظر إلى المجتمع كوحدة واحدة وليس كأجزاء ، وهذا يسهل في إعطاء إحكام تتناسب وظرفي الزمان والمكان موضوعياً .

ولكن هذا ليس معناه إعتماد سياسة في رد التفسير التاريخي كله لأن ذلك غير ممكن في الجملة ، ولكن الذي نعنيه هو الابتعاد عن التفسير الطبقي والعصبوي الذي يعتبر الصواب عنده وحسب والخطأ عند غيره وحسب ، وهذا منهج الحركات الراديكالية السائدة اليوم .

 

التعددية كما يرآها الليبرالي تاخذ الطابع الواقعي العلمي وليس الشعاراتي التعبوي لأن ذلك عند الليبرالية يلامس حقيقتها  في كونها مبدا كل الناس وهدفها تعميق الوعي بمنظومتها

 

 

 

 

 

القيمية في – العدل والحرية والسلام – وهي لذلك لا تساوم في أشياء تتعلق بالانسان وتتعلق بمستقبلة ، من هنا تفتح الباب للجميع وتغذي ذلك بالحوار الإيجابي الذي هو عندها الشعار الذي لايعلوه شعار .

 

 

 

علي الركابي

6- 10 -2004